تبدو السعادة هذه الأيام مسعى يتوق له الجميع، ولكن للأسف أصبحت مسعى ذا طابع سريالي أيضاً، فمهما تعددت مفاهيم السعادة لدينا واختلفت تعريفاتنا لها؛ فستبقى إحساساً نُحسه لا غير.
ليس لشعور السعادة تجل مادي في عالمنا الواقعي، وهذا بالضبط ما يحبسها في إطار التجربة الفردية، السعادة مفهوم مركب أيضاً، لذا فالغبطة، الفرح، الرضا أو الامتنان… اختبار شعوري شخصي للغاية، لذلك أراد العلماء تفكيك هذه الحالة الوجدانية القوية ووضعها تحت المجهر لمعرفة مُسبباتها، ناهيك من تمظهراتها المباشرة في حياة الأشخاص.
أطول دراسة علمية نفسية في التاريخ عن السعادة
مقاربة السعادة هي موضوع الكثير من الدراسات الاجتماعية، الفلسفية والنفسية وآلاف المؤلفات والكتب في الشرق والغرب، ولكن دراسة واحدة في الموضوع استغرقت أكثر من خمسة وسبعين سنة، وما زالت جارية حالياً في كلية علم النفس بجامعة هارفرد الأمريكية. حيث قام مجموعة من العلماء بإخضاع 268 رجلاً لمتابعة ورصد جميع مراحل حياتهم، تغير أهدافهم وأولوياتهم وأهم من ذلك مشاعر ونسب السعادة وإحساس التكامل لديهم.
رغم أنها دراسة غير مكتملة نوعاً ما لكونها أقصت العنصر النسائي من البحث، إلا أنها تعتبر مرجعية علمية نفسية للسعادة، حيث أفضت للكثير من الأسرار كان من أهمها؛ أن المال والممتلكات المادية، النفوذ، المكانة الاجتماعية.. هي تصورات شبه زائفة عن تحقيق نسبة من السعادة في مشوار الحياة؛ لأن هناك عامل أقوى وأكثر تأثيراً توصل له القائمون على هذه الدراسة، حيث تبين لهم بعد كل سنوات البحث والتدقيق أن أكثر ما يمكن أن يجعل الإنسان سعيداً إلى آخر لحظة في حياته هو العلاقات الاجتماعية المتماسكة والداعمة.
أسعد رجل في العالم قيد الاختبار
شغلت بال عالم الأعصاب ريتشارد ديفيدسون الذي دخل اسمه لائحة أكثر مئة شخصية مؤثرة في العالم حسب مجلة Time Magazine لسنة 2006، أسئلة محيرة عن اختلاف مقدرة الأفراد على مواجهة الأحداث التراجيدية في حياتهم، وإمكانية اكتساب المرونة وتعلمها للصمود أمام المآسي التي قد تسرق السعادة وتزيد من صعوبة الواقع المُعاش.
بتشجيع من زعيم التبت الروحي الدالاي لاما نفسه، جلب ريتشارد سنة 2008 لمختبر التصوير الدماغي والسلوكي بجامعة وسيكنسن ماديسون ثمانية من النُسّاك البوذيين الذين أمضوا ما يقارب الأربع وثلاثين ألف ساعة في التداريب الذهنية خلال حياتهم، وكان الهدف بسيطاً، إخضاعهم لاختبار التصوير بالرنين المغناطيسي MRI وآخر للرسم الكهربائي EEG في حالتين ذهنيتين مختلفتين للكشف عن شكل أنشطة الدماغ خلالها.
ما لاحظه ريتشارد عند ماثيو ريكارد كان مفاجئاً ومُفرحاً في نفس الوقت، لأنه وجد أخيراً أجوبة لأسئلته المُحيرة، فقد أظهرت الاختبارات ارتفاعاً لتذبذبات موجات جاما في الدماغ أثناء ممارسة ماثيو التأمل، وهي مؤشر على وجود عامل المرونة، أي بمعنى آخر القدرة على التغيير الإيجابي والتكيف، موجات جاما الدماغية معروفة علمياً بارتباطها بالنشاط العقلي المتزايد، القدرة على معالجة أكبر عدد من المعلومات، التحرر من التشتت والوقاية من الصداع النصفي، ويذهب العلم المتخصص لأبعد من ذلك؛ وهو أنها المسؤولة عن تحقيق نسب عالية من التوازن العاطفي والقدرة على إدارة المشاعر.
أعلن ريتشارد وزملاؤه، ماثيو ريكارد الفرنسي خبير علم الوراثة الجزيئي الذي ترك حياته ليجرب نمط عيش مُختلف بجبال الهملايا، كأسعد إنسان في العالم.
ممارسة يومية تخلق السعادة في دماغك وحياتك
يقول ماثيو الباحث والمؤلف أن التأمل بشكل يومي لمدة خمسة عشر دقيقة أو أقل هو بمثابة التمرين العضلي للدماغ، ويوماً بعد يوم يُثبت العلم فوائده على صحة الإنسان الجسدية والنفسية وجودة حياته ككل. وهو ليس كما يظنه البعض شكلاً من أشكال الاسترخاء للتخلص من الضغوطات، إنما هو مفهوم واسع، فن قديم له مدارس كبرى، هو أيضاً علم له تقنياته المتعددة وقد أصبحت هناك إثباتات علمية تؤكد أن ممارسة التأمل من شأنه تغيير كيمياء المخ وتحسين وظائفه المعرفية.
لم يكن التأمل فقط بالنسبة لماثيو عاملاً مؤثراً في حياته المُتوازنة، بل هذه هي دروس السعادة الأخرى التي يمكننا أن نتعلمها منه:
- السعادة هي نمط حياة ووجود.. وليست سعياً لتحقيق ما لا نهاية من الأهداف والتجارب.
- الجهل هو المسبب الرئيسي لعدم تحقق نسبة من السعادة، فهي مهارة عليك أن تعمل على اكتسابها وتغذيتها، فإذا كنت قادراً على تعلم المشي وركوب الدراجة فأنت أيضاً قادر على تعلم تقنيات السعادة.
- أول خطوة نحو سعادتك هي أن تدرك أنك بحاجة لأن تطور من نفسك، وبأن الكون ليس لك وحدك وسوف يستجيب لرغباتك ونزواتك متى وكيفما أردت.
- الوعي والإدراك التام لمصدر المشاعر والانفعالات السلبية كالغضب والتذمر الدائم يمنحك مناعة عاطفية وقدرة على احتواء ذاتك.
- لن تكون سعيدا حقاً حتى تتخلص من سموم الفكر كالكراهية، الخوف الهوسي، الحسد، الغيرة والكبرياء.. والتأمل ممارسة ذهنية تعزز القيم الإيجابية كالمسامحة والتعاطف.
- السعادة الحقيقية اختيار إنساني حر ولا يرتبط بالعوامل الخارجية كما نظن دائماً، ووجودها لا ينفي وجود نواقضها كالتعاسة، لأن الكينونة البشرية والكون بأكمله قائم على مبدأ القطبية.
تصدر سنوياً تقارير عالمية عن مؤشرات السعادة في أنحاء العالم، كالذي تم الإعلان عنه الخميس الماضي، حيث كانت دولة الإمارات في المرتبة الأولى بالنسبة للدول العربية، ورقم 28 في لائحة الشعوب الأكثر سعادة، لا يمكننا الجزم كلياً بمصداقية وفاعلية هذه الترتيبات لأن هناك عوامل مُختلفة تصب في الموضوع، فسعادة مواطن عربي ليست هي بالضرورة سعادة آخر نرويجي مثلاً!
رغم بساطة مشاهداتي وتجاربي في الحياة، ليست هناك سعادة مطلقة طبعاً كما يقول جورج برنارد شو: “عمر من السعادة! لا يوجد إنسان على قيد الحياة يمكن أن يتحمل ذلك: إنه سيكون جحيماً على الأرض.”
ولكن يبدو لي أن السعادة هي توازن ومزيج بين شيء من الرضا الخالص عن تجاربنا بحلوها ومُرها، الوعي بالذات الحقيقية، الحب غير المشروط في العلاقات الاجتماعية وبعض من الإنجازات المادية ووضوح الرؤية والأهداف، ولن أنسى في هذا، التأثير العظيم للبعد الروحاني.
دامت أيامكم سعادة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بك وتشرفنا بزيارتك وتعليقك الكريم
سنقوم بالرد على سؤالك فى خلال وقت قصير ان شاء الله
ويمكنك التواصل معنا على رقم الواتس
00966558187343
او زيارة صفحتنا على الفيس بوك https://www.facebook.com/LouaiHassan.HR
وترك تعليقك فى الخاص وسنقوم بمساعدتك فورا
مع اجمل التحيات والامنيات بحياة سعيدة مباركة