الفيلم الأرجنتيني “El secreto de sus ojos” (السِّر في عيونهم) يتناول بشكل رئيسي أحداث التحقيق في جريمة اعتداء وقتل “Liliana Coloto” زوجة عامل البنك “Ricardo Morales”. الفيلم لاقى إعجاب المشاهدين منذ تمّ إطلاقه سنة 2009 إذ حصل على تقييم 8.2/10 على موقع IMDb، وحاز على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية.
في بداية الفيلم يتّجه المسؤول عن التحقيق “Benjamín Esposito” إلى مقرّ الجريمة، ويتأثّر بشناعة الاعتداء الذي تعرّضت له “Liliana Coloto”. يبدأ بعدها بإجراءات التحقيق، فيستجوب “Morales” زوجَ الضّحية في مقرّ عمله. أثناء الاستجواب نكتشف الزّوجَ رجلاً مكسورًا في أقصى درجات الحزن، لا تكفي الكلمات للتعبير عن وجهه البائس وحالته المؤسفة.
تتوالى الأحداث، ثمّ يعود “Esposito” للقاء بـ”Morales” في بيته للبحث عن معلومات أكثر. لن أقوم بحرق أحداث الفيلم، سأكتفي بالتعرّض إلى واحد من أهمّ المشاهد – برأيي – و هو حين يسأل “Morales” عن العقوبة التي سيحصل عليها القاتل عندما يتم القبض عليه، فيُجيبه “Esposito” أنّ المحكمة لا تطبِّق حكم الإعدام. لذا، فالمجرم سيحصل على عقوبة السجن المؤبّد. هنا يردّ عليه “Morales”: “دعه يعيش سنينًا طويلة حياة مليئة باللاشيء”.
يجب الانتباه هنا إلى أنّ “Morales” لم يقل: “اضرِبوه، عذِّبوه، اقتُلوه!”، إنّما أشدُّ أنواع الانتقام بالنسبة له هو “حياة مليئة باللاشيء” أي حياة خالية من التجارب.
السعادة في الحياة: التدفق ضمن التّجربة المثلى
ربط عالِم النّفس الهنغاري “Csíkszentmihályi Mihály” بين “جودة الحياة” و إثراء التّجارب التي يعيشها الإنسان، حيث قال في كتابه “Flow: The Psychology of Optimal Experience”: “صار الثّراء، المكانة، و السّلطة رموزًا قويّةً للسّعادة في ثقافتنا. عندما نرى النّاس الأثرياء، المشاهير، أو الوَسيمين نميل إلى الاعتقاد بأنّ حياتهم مُجزية، حتّى وإن كانت كلّ الدلائل تشير ربّما إلى أنّهم بؤساء، ونعتقد أنّنا لو امتلكنا بعض هذه الرّموز لَكُنّا أسعد بكثير. لو تمكنّا حقيقةً أن نصير أغنى، أو أكثر سلطة، لَآمَنّا، على الأقلّ لمدّة من الزمن، أنّ الحياة تحسّنت ككل. لكنّ الرّموز يمكن أن تكون مُخَيِّبةً للآمال: هي تميل إلى إلهائنا عن الواقع الذي من المفترض أن تمثّله، و الحقيقة هي أنّ نوعية الحياة لا تتعلّق مباشرةً بكيفية رؤية الآخرين لنا أو بما نملك. ما هو مهمّ بدلًا عن ذلك، هو كيف نشعر حيال أنفسنا و ما يحدث لنا. لتحسين نوعية الحياة يجب تحسين نوعية التّجارب.”
جاء “Mihály” بمفهوم جديد هو “Flow” (التّدفّق) الذي يصف شعور الإنسان عندما يكون في أفضل حالاته. هذا المفهوم يقوم على فكرة استثمار الحياة من خلال “The Optimal Experience” (التّجربة المُثلى) التي يعرّفها “Mihály” على أنّها “الحالة التي يكون فيها النّاس منغمسين جدًّا في ما يقومون به لدرجة أنّ كلّ ما عدا ذلك لا يهمّ؛ التّجربة بحدّ ذاتها ممتعة جدًّا لدرجة أنّ النّاس سيدفعون ثمنًا غاليًا لمجرّد القيام بها”.
إذًا، دخول حالة “التّدفق” يتمّ عبر اختبار “التّجربة المثلى” التي يجب أن تتوفّر على هذه الشروط:
وجود تحدّي يتطلّب تنمية المهارات باستمرار
يوضّح المنحنى البياني الحالات الشعورية للإنسان عند ممارسة رياضة التنس مثلًا: لنفترض أنّ هذا الشّخص مبتدئ والمدرّب كلّفه بالتمرُّن على رمي الكرة بالمضرب فوق الشّبكة. في هذه الحالة مهارات المتدرّب منخفضة و التّحدي بسيط، ممّا يعني أنّ هناك توافقًا بين مستوى المهارة و التّحدي. هنا يمكن اعتبار أن النّقطة A 1 تمثّل المتدرّب المبتدئ، والذي يوجد ضمن منطقة “Flow”، أي أنّه سيكون مستمتعًا جدًّا بما يقوم به.لنتخيّل الآن أنّ المتدرّب أتقن إيصال كرة المضرب إلى النّصف الآخر للملعب، لكنّ المدرّب أجبره على مواصلة أداء نفس التمرين لشهر آخر. في هذه الحالة يكون مستوى المهارة عاليًا مقارنة بالتّحدي المطلوب، فينتقل المتدرّب إلى النّقطة A2 أي أنّه سيصاب بالملل. و في حالة ما قرّر المدرّب أن يُدخل هذا الرّياضي المبتدئ في إحدى المنافسات الخاصّة بالمحترفين، فإنّ مستوى المهارة سيكون أدنى من مستوى التّحدي، فينتقل المتدرّب إلى النّقطة A3 أين سيشعر بالقلق.الحلّ الوحيد للعودة إلى حالة الاستمتاع هو محاولة التّوفيق بين مستوى المهارة و التّحدي. بهذه الطّريقة يتطوّر الانسان باستمرار، تتحسّن مهاراته بشكل رهيب، تكون تجاربه ممتعةً بدرجة كبيرة جدًّا ويكتسب ثقة نفس عالية نتيجة للإنجازات التي يحقّقها بوتيرة منتظمة.
تحديد الهدف، وضع القواعد والحصول على التّقييم
بتحديد الهدف يُوجّه الإنسان طاقته كاملةً تحو مكان واحد، و يتفادى التشتت الذي قد يستنزف طاقته في غير موضعها، كما أنّ معرفة القواعد بشكل واضح يقوّي من تركيز الإنسان على ما يجب فعله و ما لا يجب فعله، دون الوقوع في فوضى مُيوعة القواعد وإبهام القوانين، أمّا الحصول على النّتائج (Feedback) فيساهم في تقييم أداء الشّخص، تحديد نقاط الضّعف ونقاط القوّة، و توجيه مسار المخططات التي تهدف إلى تحسين المستوى وتنمية القدرات.التركيز الشديد
“وعيُ” الإنسان هو المنطقة المسؤولة عن استعراض المعلومات التي تتعلّق بما يقع خارج و داخل الجسد بطريقة تجعله قادرًا على تقييمها و تحديد كيفيّة الاستجابة لها، فمثلًا: لا يمكن أن نعرف أنّ الجوّ بارد إلاّ إذا كانت منطقة الوعي قد عرضت هذه المعلومة. العمل الذي تقوم به منطقة الوعي خارق و ضروري و لكن قدرة استيعابها للمعلومات في وحدة الزّمن محدودة. و لهذا، لا يمكن أن نجري، نغنّي و نحفظ قصيدة من الشِّعر في نفس الوقت.استعمل”Mihály” محدودية الوعي في تصميمه للعوامل المؤدية إلى الشعور بـ”التدفق”، حيث أنّه جعل منها وسيلةً للتّحسين من نوعية التجربة شرط أن توفّر هذه التّجربة تحدّيات تكفي لاستثمار كلّ تركيز الإنسان، و شَغل منطقة الوعي بأكملها.هذه الطريقة ترمي ثلاثة عصافير بحجر واحد:# أوّلًا، يتوقّف الإنسان – ولو لفترة قصيرة – عن التّفكير في سلبيّات حياته، ينسى المشاكل الخانقة وينسى حتّى ذاتَه إذ يتنحّى الوعي بذاتِه (Self-consciousness) جانبًا فلا يعود هناك مجال للقلق حول “هل يبدو هذا القميص مضحكًا علي؟” حين يكون كلّ ما يشغل ذهنَه هو “ما هي الحركة التّالية؟” إن كان يمارس الرّياضة أو لعبة الشّطرنج مثلًا.# ثانيًا، هي أفضل طريقة لعيش التّجربة بكلّ تفاصيلها، فكلّنا رأينا مشهد عازف الكمان الذي يعزف مُغلَق العينين، منعزلا عن العالم الخارجي، لا يُشتّته شيء عن موسيقاه.# ثالثًا، خلق نطام في منطقة الوعي (Order In Consciousness) و الذي يعتبره “Mihály” سببًا رئيسيًا لاختبار “Flow”، فعندما يستثمر الإنسان تركيزه الكامل للوصول إلى هدفه، عِلمًا أنّه يمتلك مهارات تتوافق مع التّحديات التي يواجهها؛ في هذه الحالة يبلغ الشّخص درجة عالية جدًّا من المتعة القائمة على الإنجاز الذي يقوم بتحقيقه وعلى مستويات التّجربة التي يقوم باكتشافها لأوّل مرّة. هكذا يشعر عالم الرّياضيات أثناء حلّ مسألة جديدة ومتسلّق الجبال الذي يصعد نحو قمّة جديدة.خوض تجربة تملك قيمة ذاتية
مثل الذي يكتب رواية حُبًّا في الكتابة وليس لتحقيق الشّهرة أو الرّبح المادّي، أو كالطّبيب الجرّاح الذي يقوم بعمله حُبًّا فيه، وسيستمرّ بممارسته حتّى لو توفّرت له مناصب أخرى بمرتّبات وامتيازات أفضل لمجرّد أنّه يستمتع بالقيام بالعمليات الجراحية.يقول “Mihály”: “معظم ما نقوم به عادةً لا يملك قيمة ذاتية، ونقوم به لأنّه يجب علينا ذلك، أو لأنّنا نترقّب فائدة مستقبلية منه. الكثير من الأشخاص يشعرون أنّ الوقت الذي يقضونه في العمل ضائع […] وبالنّسبة لبعض النّاس وقت الفراغ كذلك ضائع؛ لأنّ الفراغ يقدّم فترة راحة من العمل، لكنّه عمومًا مكوّن من معلومات نتلقّاها بكسل دون استعمال أيّة مهارات أو اكتشاف تجارب جديدة. نتيجةً لذلك، تمضي الحياة كتسلسُل من التّجارب المُمِلّة و المُقلِقة و التي لا يمكننا السّيطرة عليها. التّجربة التي تملك قيمة ذاتية، أو “التّدفق”، تأخذ مسار الحياة لمستوى آخر […]. عندما تكون التّجربة مُجزية في حدّ ذاتها، تكون الحياة مُبَرّرة في الحاضر، بدل أن تكون رهينة ربحِِ مستقبلي مُفتَرَض.”
السّعادة في الحياة بِمنظور جديد
يقول عالِم النّفس “Csíkszentmihályi Mihály” في كتابه “Flow: The Psychology of Optimal Experience”: “منذ 2300 سنة، استنتج أرسطو أنّ الرّجال والنساء يسعون إلى السّعادة في الحياة أكثر مِن أيّ شيء آخر. بينما نسعى إلى السّعادة لِذاتها، كلّ هدف آخر – الصّحة، الجمال، المال، أو القوّة – له قيمة فقط لأنّنا نتوقّع أنّه سيجعلنا سعداء.”
في كتابه، لا يناقش “Mihály” كيفية تحقيق السّعادة في الحياة بالطرق التقليدية، إذ أنّ له نظرة مختلفة لها، فيقول: “خلافًا لما نؤمن به عادةً […] أفضلُ اللحظات في حياتنا ليست أوقات الكسل والتّلقي والرّاحة – رغم أنّ مثل هذه التّجارب يمكن أن تكون ممتعةً أيضًا، إن عملنا بجدّ للحصول عليها. أفضلُ اللحظات عادةً هي عندما يكون جسد الشخص أو ذِهنُه ممدّد إلى حدوده في إطار مجهود مبذول طوعًا لتحقيق شيء صعب و ذي شأن. التّجربة المثلى إذًا هي شيء نجعله يحدث. بالنّسبة لطفل، قد يكون هذا وضع آخر قطعة على القلعة التي بناها أعلى من أيّة قلعة بناها سابقًا؛ بالنّسبة لسبّاح قد يكون هذا محاولة كسر رقمه القياسي الشّخصي […]. بالنّسبة لكلّ شخص، هناك آلاف التّجارب و التّحديات لإنماء أنفسنا. مِثل هذه التّجارب لا تكون بالضّرورة مسلّية عندما تحدث. عضلات السّباح ربّما كانت تؤلمه أثناء سباقه الأكثر جدارة بالذِّكر، ربّما أحسّ بأنّ رئتيه كادتا تنفجران، و ربّما كان مصابًا بالدّوار من شدّة التّعب – مع ذلك قد تكون هذه أفضل اللّحظات في حياته. التّحكم بالحياة ليس سهلًا أبدًا، و في بعض الأحيان قد يكون مؤلمًا، لكن على المدى الطّويل، التّجارب الأمثل تضيف إحساسًا بالتّمكُّن – أو ربّما أفضل، إحساسًا بالمشاركة في تحديد محتوى الحياة – الذي يقترب جدًّا ممّا نعني به عادةً السّعادة في الحياة.”
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بك وتشرفنا بزيارتك وتعليقك الكريم
سنقوم بالرد على سؤالك فى خلال وقت قصير ان شاء الله
ويمكنك التواصل معنا على رقم الواتس
00966558187343
او زيارة صفحتنا على الفيس بوك https://www.facebook.com/LouaiHassan.HR
وترك تعليقك فى الخاص وسنقوم بمساعدتك فورا
مع اجمل التحيات والامنيات بحياة سعيدة مباركة