تدوينة: أيوب الوكيلي
العقل هو الصندوق الأسود الذي يشمل كل خبراتك التي مررت بها على المستوى النفسي والشعوري، إنه المرآة التي تجمع كل ما قمت به منذ الولادة من أفكار ومشاعر وأحاسيس، جميعهم شكلوا الأنسجة الدقيقة المرنة للدماغ، بل وحتى جميع تصرفاتك وسلوكياتك التي تقوم بها مرارا وتكرارا قد تشكلت في هذه الطيات المعقدة للمنطقة الرمادية بالدماغ، وبذلك يمكن القول إن الدماغ هو انعكاس للبيئة. من هذا المنطلق يمكن القول إن أهم شيء في هذا الوجود هو الفكرة، لأن كل ما نراه اليوم من تقدم وتطور في جميع المجالات بدأ بفكرة، لكنها فكرة أمن بها أصحابها حيث قادتهم إلى النجاح والإبداع، كما أن الفكرة الناجحة هي التي تتحول إلى ممارسة وعمل، لأنه من السهل أن تفهم أي حقيقة بعد اكتشافها، لكن الصعوبة في اكتشاف الفكرة التي تقود إليها.
في السابق كان المعتقد السائد أن الدوائر العصبية التي تتشكل في الدماغ غير قابلة للتغيير، بمعنى أخرى أننا لا نستطيع تغيير بعض النماذج والأفعال لأنها جزء جوهري من هويتنا، ولكن الحقيقة التي يثبتها علم الأعصاب اليوم، هي أن العقل والفكر هو الذي يصنع الواقع الذي نريده ، يمكن إعادة تشكيل الروابط العصبية بالدماغ وتغيير أي سلوك لا نرغب به، عبر تغيير التصورات والنماذج الذهنية التي تعودنا عليها، إضافة إلى العزم والإرادة من أجل الوصول إلى الأفكار العظيم وتحويلها إلى مشاريع عملية، فالعظماء الذين صنعوا التاريخ في جميع المجالات كان لديهم أيمان عميق بقوة وفعالية ما يريدونه.
“ما يكون بدعة في عصر ما يصبح مألوفاً في العصر الذي يليه” هيلين كيلر.
على سبيل المثال، لو لم يؤمن مارتن لوثر كينج بفكرة خلق واقع مختلف في مواجهة كل التحديات التي اعترضته، ونضاله من أجل المساواة والحرية وحقوق الأشخاص ذوي البشرة السمراء، لما كان لحركة الحقوق المدنية كل هذا الزخم والتأثير الذي وصلت له اليوم. وهو ما حاول مارتن أن يصفه في خطابه الشهير على أنه “حلم” عاشه بشكل يومي إلى درجة أضحى جزء جوهريا من كيانه، الشيء الذي مكنه من مواجهة التحديات، لأن أفكاره وذهنه صور كل تلك التحولات التي صنعها على المستوى الواقعي، حيث شعر بها وعاشها وتخيلها يوميا في ذهنه، الشيء الذي جعل هذا الحلم يتحول إلى حقيقة ملموسة، لأن الفكرة كانت حية في ذهنه.
وهذا ما يجعل العظماء والمبدعين يعيشون إبداعاتهم على المستوى الذهني والعقلي، رغم أن الجميع لا يرى تلك الإبداعات، لأنها لازلت مجرد فكرة في الخيال الذهني، وهذا ما حصل مع كوبرنيك في محاكمته عندما انتهت المحاكمة بالقتل فقال له القاضي هل تريد أن تقول شيء فأجاب إن الأرض تدور حول الشمس، الشيء نفسه حدث مع توماس أديسون الذي عاش مع فكرة المصباح وتخيله مشتعلا لعدة سنوات، رغم كل المحاولات الفاشلة فإنه ظل مؤمنا بفكرته حتى تحولت تلك الفكرة إلى حقيقة أضاءت العالم، لأن
“الفكرة الجيدة لا تضيع ولو مات صاحبها من دون أن ينشرها ، فيوماً ما ستولد في عقل شخص أخر” توماس إديسون.
الأمر نفسه حصل مع هيلر كيلر الأديبة والمحاضرة والناشطة، حيث تعتبر من رموز قوة الإرادة الإنسانية، حيث أنها كانت فاقدة السمع والبصر، غير أن ذلك الأمر لم يكن عائقا أمام فكرة النجاح لديها، رغم كل الصعوبات والتحديات، استطاعت أن تتغلب على إعاقتها بحصولها على بكالوريوس الآداب، وهنا يظهر أن بداية التغيير و التطور قد تنشأ مع المعاناة التي نخافها قد تكون سبيلا نحو الرقي والتقدم الحضاري والعمراني، وتقول في هذا السياق” من يشعر برغبة لا تقاوم في الانطلاق لا يمكنه أبداً أن يرضى بالزحف” لهذا ابقي وجهك تجاه الشمس ولا ترضى بالظلال، لأن أي شخص يمكنه أن ينجز وينجح فقط يحتاج إلى الالتزام لوقت كافي بما يريد الحصول عليه.
قد أكد علم الأعصاب الحديث أنه يمكننا تغير أدمغتنا عن طريق التفكير بطريقة مختلفة عن النمط الذي اعتدنا عليها عبر عملية “التخيل الذهني” أي تخيل أداء فعل معين بشكل متكرر” يمكن للدوائر العصبية في أدمغتنا أن تعيد تنظيم نفسها لتعكس النوايا الجديدة للفعل المتخيل.
في إحدى الدراسات، أثبتت أن الأشخاص الذين يقومون بالتخيل الذهني للعب نوتة موسيقية معينة ساعتين يوميا لمدة خمسة أيام أحدثوا نفس التغيرات في الدماغ، مثل الأشخاص الذين تدربوا عليها فعليا، لأنه عندما نقوم بالتركيز وتوجيه الدماغ نحو شيء محدد، لا يفرق العقل بين الخيال والواقع، كما أظهرت إحدى الدراسات أن المشاركين الذين قاموا بأداء تمارين تخيلية لرفع الأثقال لمدة قصيرة يوميا اكتسبوا زيادة بنسبة 13 % في حجم عضلات الذراعين دون لمس أي وزن، هنا يتضح أن التخيل الذهني يؤثر على أجسامنا ونموها أيضا، في حين أن التفكير السلبي يسبب التوتر والقلق و يعد مصدر كل الأمراض والأزمات التي يعاني منها الإنسان.
هذا النوع من المعالجة الداخلية يسمح لنا أن نعيش أحلامنا وتصوراتنا الداخلية عاطفيا وشعوريا رغم غيابها على المستوى الواقعي، فإنها تعمل على تعديل فضاء الكون من أجل تحقيق أفكارك وطموحاتك، الدماغ يعيش التجربة على المستوى الذهني قبل الواقع الخارجي، في هذا الصدد توجد حادث وقعت لأحد الجنود الأمريكيين في حرب الفيتنامية، ثم اعتقاله ووضعوه في قفص أسود لا يدخله الضوء إلا بعض الأشعة القليلة في الصباح، لمدة 8 سنوات، ولكي لا يصاب بالجنون في هذه الوضعية بدأ يتخيل نفسه يلعب الكلف يوميا لمدة ساعات طويلة، و سرعان ما انتهت الحرب وأعيد إلى بلاده بعد فترة العلاج النفسي، قرر أن يدخل مسابقة الكلف فأخد مراتب عالية منذ الدورة الأولى وأضحى من كبار المحترفين بهذه اللعبة، هذا المثال يوضح أهمية التخيل والتفكير الذي يصنع واقعا مختلف، حيث تكون البيئة الداخلية أقوى من البيئة الخارجية.
وهذا ما يفعله القادة العظام أثناء التعاطي مع طموحاتهم، مثلا أينشتاين وكيلر وجنكيز خان وتوماس أديسون، أمنوا بقدرتهم على صناعة المستقبل وتغييره، لأنه حينما نستطيع تركيز عقولنا مع الهدف المنشود يتصرف الجسم والدماغ بأسلوب يخدم تلك الأهداف والطموحات، لا يحس بالملل عندما ننجز ونعمل في الأشياء التي نحبها، في الحقيقة كلما فكرنا أو شكلنا صورة معينة لسلوكنا في ظرف معين بالمستقبل، كان من السهل علينا أن ننفذ طريقة جديدة للتعامل مع الواقع لأن العقل والجسم يتحدان من أجل تنفيذ هذه الغاية.
كما أن المشاعر والعواطف عبارة عن ذاكرة عصبية كيميائية للخبرات السابقة، يمكننا أن نتذكر حدث أو تجربة ما بصورة أوضح عندما نسترجع المشاعر المرتبطة بها، لهذا تجد أن بعض الخبرات النفسية نتذكرها بشكل كبير لأنها أعمق على المستوى النفسي والعاطفي داخل عقولنا. وفكرة التغيير تنطلق من هذا المبدأ إذ أننا نواجه عقبات وتحديات في الحياة تتطلب منا التفكير والتعامل معها بأسلوب مختلف عن مشاعرنا المعتادة، بهذا الأسلوب نبدأ في مشوار التميُز، فكر معي في هذا الأمر، مشاعرنا تعكس الماضي، أي ما مررنا به من خبرات.
تغيير الواقع يبدأ عندما تجاوز طرق التفكير والنماذج الذهنية التي نرى بها العالم، تشكل هذه العملية البداية للاتجاه نحو المستقبل بنتائج جديدة.
التغيير هو أن تخرج عن المألوف في نفسك، وتتجاوز مشاعر الخوف والقلق والإحباط والجشع، لأن الاستسلام لتلك المشاعر يقود إلى الركود والخمول والعودة إلى الحياة اليومية الخالية من الإبداع والابتكار.
حاصل القول إن التفكير بمنطق التغيير أضحى قليلا، نظرا لسيل المنهمر الذي يحط علينا كل يوم بدون أن نعرف كيف نتعامل معه، حيث أن التكنولوجيا الحديث تقتل فكرة الأبداع، لأن معظمنا تائه دون أن يجد متعة في المراسلات النصية والمكالمات الهاتفية والأنترنت، لذلك نحن في حاجة إلى وقت نخصصه للتأمل والتخطيط للمستقبل، والتأمل الذهني من أجل تغيير السلوكيات التي نرغب في تعديلها، والتفكير في طرق جديدة من أجل بناء الواقع والأهداف التي نسعى إليها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بك وتشرفنا بزيارتك وتعليقك الكريم
سنقوم بالرد على سؤالك فى خلال وقت قصير ان شاء الله
ويمكنك التواصل معنا على رقم الواتس
00966558187343
او زيارة صفحتنا على الفيس بوك https://www.facebook.com/LouaiHassan.HR
وترك تعليقك فى الخاص وسنقوم بمساعدتك فورا
مع اجمل التحيات والامنيات بحياة سعيدة مباركة