من اتهامه بأنه يميني نازي معاصر متطرف وحتى مروج لليهود واليهودية خاتمًا بذلك الطيف السياسي بأكمله بتلك الاتهامات المبنية حول نظرياته المغيظة للكثيرين والموحية بالعقلانية والعلمية. مراوغته البلاغية في خطاباته ومناقشاته جعلته قدوةً أبويةً عقلانيةً للكثيرين حول العالم، وصلت شهرته وأرباحه من برامج التقوية الذاتية التي يصدرها لمستويات قياسية – تلك التي يصوغ بها جملًا مغريةً مثل: «رتب غرفتك قبل أن تحاول تغيير العالم»- جمعت الكثيرين حوله. لنتعرف على أكثر مفكري عصرنا إثارةً للجدل، عالم النفس جوردان بيترسون Jordan B Peterson.
من هو جوردان بيترسون:
ولد جوردان بيترسون Jordan B Peterson في 12/06/1962 في أدمنتون/ كندا -التي طالما وصفها كبلدة حديثة قاسية تشكل نهاية حدود الحضارة في الشمال الكندي البارد- وهو بروفيسور كندي في علم النفس في جامعة تورونتو The University of Toronto وعالم نفس سريري، أمضى خبرةً طويلةً لمدة 25 عامًا في 3 من كبرى جامعات الغرب، جامعة هارفارد Harvard University وجامعة ماكجيل McGill University ومؤخرًا في جامعة تورونتو.
بيترسون مختص في علم النفس اللا قياسي وعلم النفس الاجتماعي وعلم نفس الشخصية، مع اهتمام خاص بعلم نفس الأديان وأيديولوجيا الإيمان وتقييم وتحسين الشخصية والأداء الوظيفي والتمكين الذاتي.
ومنذ مواجهته مع كاثي نيومان Cathy Newman -التي صنعت العجائب له- فإن كتابه (12 rules for life) أو (12 قاعدةً للحياة) قد تصدر المبيعات في كندا وأمريكا والمملكة المتحدة وأستراليا وألمانيا وفرنسا وحتى حصد مبيعات جيدة في كوريا الجنوبية.
بالرغم من أن العديد من الأكاديميين وصفوا حواراته بأنها ملأى “بحقائق زائفة مغرية ومحيرة” وبنظريات المؤامرة، فلم يكن جوردان بيترسون ليأمل شهرةً أكثر مما نال بسبب تلك المواجهة مع نيومن على القناة الرابعة Channel 4 News التي نالت أكثر من 14 مليون مشاهدة على اليوتيوب.
فكلما قامت نيومن بتأويل معتقداته بشكل غير دقيق وكلما خانت انضباطها، نصعت بالمقابل صورة بيترسون التي يفضلها، كرجل علمي عقلاني ثابت الأعصاب يواجه هستيريا *اللباقة السياسية، إذ قال لنيومن بصوت رفيع مميز: «أنا أختار كلماتي بحذر جدًا جدًا».
ليس بيترسون مجرد شخص مغيظ أو نرجسي أو متهالك آخر يبني حججه بشكل خاطئ سهل الدحض مبني على إيمان سيء أو تهاون أو كسل فكري أو تعصب صارخ، فمن الصعب المواجهة مع شخص يؤمن بما يقول ويعلم يتكلم عنه أو على الأقل يوصل هذا الانطباع.
فليس عجبًا أن جميع الذين يدينون اللباقة السياسية عبر الطيف السياسي كله يرفرفون فرحًا بهذا البروفيسور ذي ال57 عامًا الذي يجلب لهم خزانةً من الأسلحة الثقافية العقلانية الثقيلة إلى مسرح الشكاوى المعتادة ضد حالة *”محاربون من أجل العدالة الاجتماعية Social justice “warriors SJW، وحالة *”ندف الثلج Snowflakes”، إذ يؤمنون أنه قد يكون السلاح السري للحرب الثقافية.
على الرغم من شهيته للترويج الذاتي، يدعي جوردان بيترسون أنه نجم محجم. وقال لصحيفة “the Ottawa Citizen” العام الماضي: «في عالم معقول، كنت لأحصل على الـ 15 دقيقةً من الشهرة خاصتي وفقط… أشعر كأنني أركب موجةً عملاقةً… قد تنهار وتسحقني، أو يمكنني أن أركبها وأواصل. كل هذه الخيارات ممكنة بشكل متساوٍ».
منذ عامين كان بيترسون بروفيسورًا محبوبًا في جامعة تورونتو وطبيبًا نفسيًا سريريًا يدعو الناس إلى برامج التقوية الذاتية خاصته على قناته على اليوتيوب، وكتابة خرائط المعنى: بنيان الإيمان Maps Of Meaning: The Architecture of Belief -الذي نشره عام 1999- يعد مرجعًا أكاديميًا من العيار الثقيل، حلل به العديد من القصص الدينية التقليدية وغير الدينية كعدة قصص من أفلام ديزني حتى.
أما كتابه الثاني ذائع الصيت والشهرة “12 قاعدةً للحياة” الذي يقدم به أمثولة الحب الأبوي القاسي الصارم، يدعو به إلى القوة والانضباط والشرف.
لكن فقاعته من الشهرة والثروة قد بدأت من مكان آخر، عبر سلسلة مقاطع فيديو على اليوتيوب في عام 2016 عنونها “بروفيسور ضد اللباقة السياسية- Professor Against Political Correctness” حينها كان جوردان بيترسون أمام تطورين: أحدهما تعديل فيدرالي لقانون حقوق الإنسان الكندي بإدخال الهوية الجنسية والتعبير الجنسي إليه، وآخر هو خطة جامعته لإلزام تدريبات ضد الانحيازية في التعاطي والمعاملات.
من هنا ثار بيترسون ضد الماركسية ومنظمات حقوق الإنسان وأقسام الموارد البشرية وما سماه “بمنظومة خفية من الأهداف السياسية اليسارية المتطرفة” تفرض ضمائر حيادية الجنس عليه.
بعد عدة أيام انتشر فيديو لمجموعة من الطلاب يقاطعون إحدى محاضراته، ما عزز صورته كباسل قائل للحقيقة وقد استذكر ذلك لاحقًا بقوله: «لقد أصبت قفير دبابير في أكثر الأوقات ملاءمةً».
وبالفعل قد أصابه! وبناءً على ذلك ومنذ حينها فقد اعتنق أفكاره وبجله العديد من المفكرين والاقتصاديين ووصفوه بالرسول العلماني في زمن التوكيد المسخي “الدوغمائي” وبخاصة على طرف اليمين المتطرف المعاصر (الذي لا يدعو بالضرورة للفوقية والدولة الإثنية البيضاء) من الطيف السياسي والذين لطالما حاول بيترسون عزل نفسه عنهم.
وقد ارتفعت أرباحه من محركات التمويل الجماعي على Patreon و YouTube -فقد شوهدت محاضراته ومناقشاته تقريبًا بمجموع 40 مليون مرة- التي فاقت راتبه الأكاديمي بكثير.
لم تغوِ الجميع فكرة أن بيترسون مفكر ذو جوهر، ففي تشرين الثاني الماضي دعاه زميله في جامعة تورونتو ايرا ويلز Ira Wells “بروفيسور الهذيان” بأنه نجم يوتيوب أكثر من أن يكون أكاديميًا ذا مصداقية، أما كاتبة العمود تاباثتا سوثي Tabatha Southey في مجلة Macleans الكندية فقد دعته “رجل الرجال الأغبياء الذكي” وكتبت:
«إن خلطة جوردان بيترسون السرية هي أنه يضع قشرةً أكاديميةً زائفةً على الكثير من الرياء قديم العهد للجناح اليميني، بما فيه الإيحاء أن أغلب الأوساط الأكاديمية شريرة وفاسدة، ويثرثر بأفكار مبتذلة عن المساعدة الذاتية؛ فهو على أي اعتبار مجرد متعبد ديني، وأنا أعتقد أنه مجرد أبله ولكن ذلك لا يعني أنه ليس خطيرًا».
إذن بماذا يؤمن بيترسون حقًا؟ فهو يصف نفسه بأنه ليبرالي بريطاني كلاسيكي جل تركيزه في سايكولوجيا الإيمان، ومعظم ما يقوله يعتبر مألوفًا، كحديثه أن المجموعات المهمشة تُحضَن داخل ثقافة الضحية واستشعار الإهانات، واللباقة السياسية تهدد حرية التفكير والخطاب، والتقاليد الأيديولوجية تقوض المسؤولية الشخصية. يمكن أن تقرأ هذا الكلام في أي يوم وقد تتفق مع بعض منه.
لكن بيترسون يذهب أبعد من ذلك نحو منطقته المرتابة ليصل لكرهه الأعظم لما يسميه “الماركسية الجديدة في عصر مابعد الحداثة” أو “الماركسية الثقافية”. باختصار بعد أن فشل الماركسيون بالفوز بالجدال الاقتصادي قرروا أن يتخللوا داخل النظام التعليمي ويقوضوا القيم الغربية بأفكار “خبيثة، وغير قابلة للتحقيق، وغير إنسانية” كمثال، سياسات الهوية (تسييس الهوية) التي ستمهد الطريق نحو الشمولية.
درس جوردان بيترسون العلوم السياسية وعلم النفس، لكنه أيضًا ضم العديد من التخصصات -البيولوجيا التطورية والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والتاريخ والأدب والدراسات الدينية- في نظريته الكبرى. لكن بدلًا من الترويج للتعصب الصارخ مثل اليمين المتطرف، فهو يعتبر أن المفاهيم الأساسية لحركات العدالة الاجتماعية مثل أن وجود “النظام الأبوي” وغيره من أشكال القمع المنظم هي أوهام زائفة ويمكنه أن يثبت ذلك بالعلم.
وبالتالي: «فكرة أن النساء تعرضن للقمع على مر التاريخ هي نظرية مروعة». الإسلاموفوبيا هي: «كلمة أنشأها الفاشيون واستخدمها الجبناء للتلاعب بالأغبياء». الامتياز الأبيض هو: «كذبة ماركسية». الاعتقاد بأن الهوية الجنسية أمر ذاتي التحديد: «سيء مثل الادعاء بأن الأرض مسطحة».
إن بيترسون كبير بالعمر بما فيه الكفاية ليتذكر حروب الصواب السياسي في تسعينيات القرن الماضي بما فيها تحذيرات العديد من المفكرين حينها أن قواعد الخطاب بالحرم الجامعي وغيرها من القواعد سوف تنزلق بالولايات المتحدة نحو الماوية (الصين الشيوعية)، ولم يستطع صحفيو الإعلام الرئيسي مقاومة تلك الحيلة المحيرة التي يطرحها: «ماذا لو كان التقدميون اليساريون هم الفاشيون الحقيقيون؟!»، ولكن فصاحة الأكاديميين التحذيرية حينها تبدو سخيفةً الآن، فتلك التشابكات الجامعية لم تقد إلى الغولاغ (مخيمات السخرة الشيوعية) على الرغم من أن رؤيا جوردان بيترسون تحبذ دائمًا العودة إليها.
كما أن بيترسون تأثر كثيرًا بالحرب الباردة وكان مهووسًا في ريعان شبابه بالكيفية التي تقود بها الأيديولوجيا الجمودية الناس العاديين لارتكاب الفظائع، كما أنه يقوم بجمع العديد من التحف والفنون السوفيتية من باب “اعرف عدوك”. وفي سلسلته بروفيسور ضد اللباقة السياسية يقول: «أنا أعلم القليل عن كيفية نمو الدول الشمولية والسلطوية، وليس بإمكاني إلا التفكير أني أرى قسمًا معتبرًا من ذلك الأن».
يمكن اعتبار جوردان بيترسون إلى حد كبير محافظًا تقليديًا، يعنى بتراجع قيم الإيمان الديني والعائلة التقليدية، لكنه يستعمل لذلك أساليب معاصرة، فإن تعاليمه الإنجيلية تلقى صدى بين الرجال البيض الشباب -الذين يشعرون بنوع من الغربة بسبب مصطلحات حوارات العدالة الاجتماعية- ما يجعلهم يتوقون لنظرية قوية عن عالم لا يصنفون به كقامعين.
والكثيرون ينتابهم فقط فضول فكري، فالعديد من الذين اشتروا كتبه على أمازون اقتنوا أيضًا كتبًا لمفكريه المفضلين مثل نيتشه ويونغ ودوستوفسكي وسولزهيستاين.
فيديوهات محاضراته الطويلة الكثيفة تتطلب التزامًا أيضًا، إذ أنه يجمع بين أدوار البروفيسور المتعلم ومعلم المساعدة الذاتية ومقاتل الشوارع في محاربته مفاهيم العدالة الاجتماعية. بالإضافة لنظامه الغذائي الذي أقل ما يمكن القول عنه أنه نادر وغريب -الذي قرر الالتزام به بسبب مرض مناعة ذاتية مصاب به هو وزوجته وقد وصل لابنته بشكل مستفحل- فبيترسون وجد أن هذه الحمية قد صنعت العجائب لابنته فقرر اتباعها أيضًا، هذا النظام يتكون فقط من شرب الماء ولا يأكل إلا اللحم الأحمر وحرفيًا لا شيء آخر؛ ما هدم -على حد قوله- العديد من النصائح التي كنا نسمعها عن الأنظمة الغذائية.
وعلى موقع reddit يعتبر العديد من معجبيه أنه قد غير حياتهم بل حتى أنقذها، ومؤخرًا في إحدى محاضراته في لندن -التي بيعت كليًا- كان الجو مشابهًا لاجتماعات الصحوة والانبعاث والتجدد.
إن إعجابًا شديدًا كهذا يمكن أن يصبح خبيثًا بسرعة، فقد انهالت رسائل حقد وذم وتشهير شخصي وحتى التهديد الجسدي على العديد من منتقدي جوردان بيترسون ، حتى عزل العديد منهم نفسه عن أغلب وسائل التواصل، إلى أن وصل الأمر ليطلب بيترسون من معجبيه قائلًا: «تراجعوا».
بالرغم من أن بيترسون لا يعتنق أيةً من هذه الآراء والهجمات، فإن رجولته الثقافية لا ترفضها أيضًا، فهو يطلق على الأفكار التي تناقضه كلمات مثل سخيفة ومضحكة وتافهة وخرافية وجنونية، كما أنه يوصف أرضية المناظرة كحلبة قتال للأفكار ويلمح للعنف الفيزيائي أيضا فيقول: «إن كنت تتكلم مع رجل ليس لديه أدنى نية أن يقاتلك تحت أي ظرف من الظروف، فإنك تتكلم مع رجل لا تكن له أدنى احترام»، مضيفًا أنه من الصعب المجادلة مع “النساء المجنونات” لأنه لا يمكن ضربهم.
وينشر معجبوه مقاطع فيديو تحمل عناوين مثل “جوردان بيترسون يحطم بروفيسورًا متحولًا جنسيًا” و”تلك المرات السبع التي دخل بها جوردان بيترسون وضعية الوحش”.
في النقاش كما في الحياة، يؤمن بيترسون بوجود فائزين وخاسرين. كما تقول سوثي: «كيف لك أن تجادل رجلًا يبدو أنه مهووس بإخبار أتباعه المخلصين أن هناك عصبةً من الماركسيين الجدد من ما بعد الحداثة يعتزمون تدمير الحضارة الغربية، وأن مجموعات مجتمع الميم في جامعاتهم تشكل جزءًا منهم؟ فلن يكون هناك نقطة أبدًا تراه فيها يقول: “أتعلم ماذا؟ لقد كنت أتكلم هراءً ذلك الحين” فالأمر فقط عبارة عن محاولته الهيمنة في المناظرة».
كوكبة معتقدات جوردان بيترسون تجذب جمهورًا غير متجانس، يشمل في أغلبه مسيحيين محافظين، وتحرريين ملحدين، ونقادًا وسطيين، ونازيين معاصرين. لكن هذا الصامد معادي السلطوية لديه عادة ملفتة للنظر، تتمثل في شيطنة اليسار مع التقليل من المخاطر القادمة من اليمين، بحجة أن الطرفين يلعبون لعبةً خطيرةً في سياسات الهوية، فاليمين لم يهيمن على الجامعات وأقسام العلوم الإنسانية بينما اليسار قد فعل، فقد ادعى ترامب بأنه “ليبرالي” و”معتدل” وأنه ديماغوجي (دهماوي) مثل ريغان.
وكباقي ناخبي ترامب المتعصبين؛ يدعي بيترسون أنه خطأ اليسار عندما ضحى بالطبقة العاملة على مذبح سياسات الهوية*، فاحتقاره سياسات الهوية يتضمن ما سماه “مرضية الفخر العرقي”، وهو لا يعتنق اليمين المتطرف تمامًا، لكنه يغازلهم ببعض الميميز (memes) بين الحين والآخر ويتداخل معهم ببعض أفكارهم.
كما يقول عنه ديفيد نيويرت David Neiwert، مراسل شمال غرب المحيط الهادئ للمركز القانوني للفقر الجنوبي the Southern Poverty Law Center ومؤلف كتاب التطرف الأمريكي: صعود اليمين المتطرف في عصر ترامب Alt-America: The Rise of the Radical Right in the Age of Trump: «صحيح أن بيترسون لا يدعو للقومية البيضاء، لكنه يدعم أطروحته بحقائق زائفة صنع العديد منها فقط للهدف الضمني “دعم القومية البيضاء”، بخاصة فكرة “الماركسية الثقافية”، وغالبًا ما يمر نطاق التطرف عبر هؤلاء الأيديولوجيين المعتدلين».
انتهز بيترسون فرصةً ذهبيةً وسحب البساط من تحت اليساريين بدعوته لحرية الخطاب -التي كانت عادةً نداءً يساريًا- بسبب ظهور السلطوية اليسارية مؤخرًا وإسكات ومنع الآراء المخالفة “المهينة” أينما سنحت الفرصة، وخاصةً في وسائل التواصل الاجتماعي، التي ما زالت آليات وسياسات الرقابة بها تجري في الخفاء وبنزاهة مشكوك بها. وذلك الأمر قد انسحب للجامعات وخاصةً أقسام العلوم الإنسانية والاجتماعية، ما أظهر بيترسون بمظهر مضاد الطغيان والسلطوية والرقابة الاستبدادية الظالمة.
لكن التزام جوردان بيترسون بحرية التعبير غير المقيدة أمر مشكوك فيه. بمجرد أن تؤمن بمؤامرة قوية وخبيثة؛ سوف تبدأ في تبرير إجراءات متطرفة. في تموز الماضي، أعلن بيترسون عن خطط لإطلاق موقع إلكتروني يساعد الطلاب وأولياء الأمور على تحديد وتجنب الدورات التدريبية “الفاسدة” والتي تضم “محتوى ما بعد الحداثة”.
وأعرب عن أمله أنه في غضون خمس سنوات ستذهب هكذا برامج ودورات في غياهب النسيان، ما سيؤدي إلى تجويع “طبقات عبدة الماركسية الجدد في عصر ما بعد الحداثة”. لكن بيترسون قام بتجميد الخطة بعد ردود فعل عكسية، معترفًا بأنها: «قد تزيد بشكل مفرط من الاستقطاب الحالي».
من كان يمكن أن يتنبأ بأن وضع أساتذة وزملاء في قائمة سوداء سيؤدي إلى تفاقم الاستقطاب؟! على ما يبدو ليس “المفكر العمومي الأكثر تأثيرًا في العالم الغربي”.
تقول كارا تيرني Cara Tierney – فنانة وأستاذة، احتجت على ظهور بيترسون في معرض أوتاوا الوطني العام الماضي: «الفرق هو أن هذا الفرد لديه لقب ومهنة تضفي مصداقيةً وهميةً معينةً، وهو استعراضي للغاية ويستغل ببراعة المنصات التي تزدهر عند المشاهد المثير للجدل والخائف والمتحامل. إن معتقدات بيترسون لا تمثل تهديدًا كما هي، ولكن الخطر يكمن في الكيفية التي ينتقص بها من المحادثات الأكثر أهميةً عن قصد وبصراحة».
في سلسلة من الحوارات مع المفكر الكبير سام هاريس Sam Harris -نظمتها منصة Pangburn في أربعة لقاءات- لاحظ العديد من النقاد والمفكرين مراوغة جوردان بيترسون وتحريفه للعديد من المصطلحات أثناء محاولته إحياء بعض القيم والأمثلة الدينية التقليدية حتى وصل به الأمر إلى نقطة اختلف عندها تمامًا جوهر ما يدعو إليه بهذه الأمثلة وأصبح يميل نحو التجديد والاختراع أكثر من الاكتشاف والإظهار، ومما قاله له سام هاريس: «ولكن أنت بتحويرك لمفهوم (الله) سرقت من الاسم التقليدي معناه التقليدي…
ففي كل ما قلته الآن عن مفهومك عن الله لم أجد أيًا مما تدعو إليه الأديان التقليدية ومؤسساتها الدينية… على سبيل المثال إن قلتُ لك أني لا أومن بالأشباح -ونحن نعلم جميعنا ما مفهوم الناس التقليدي عن الأشباح- وثم قلت لي “لا لا… أنت تؤمن بالأشباح فالأشباح هي علاقتك مع غير المعلوم” فأعتقد أني سأقول لك أنت محق! أعتقد أني أومن بالأشباح!».
وردًا على سؤال سام لجوردان أنه ما زال غير واثق ما إذا كان جوردان يؤمن بالله أم لا، قال جوردان مستغربًا لماذا قد يعتقد سام أن المرء يجب أن يكون واثقًا من ناحية الإيمان؟، ناسبًا الأمر للا وعي وواقعًا في فخ ما بعد الحداثة الذي عادةً ما يحاربه.
وتعد هذه النقاشات التي خاضها سام وجوردان من أهم الحوارات الفلسفية في العام الماضي وننصح أي مهتم بمشاهدتها (مترجمة للعربية): حوار جوردان بيترسون و هاريس الأول – فانكوفر قد نتطرق لتحليلها ومعالجتها في مقال لاحق.
وحتى عند سؤاله عما إذا كان يؤمن حرفيًا أن المسيح قد مات بيولوجيًا وقام حرفيًا بعد 73 ساعةً، أجاب: «لا أعلم ماذا يحصل عندما تصل لمرحلة عالية من الوحي، حدث الأمر مع بوذا كذلك تحت شجرة». ولكن عند سؤاله عن المعنى المجازي لقصة قيامة المسيح وغيرها من القصص التقليدية الاعتيادية فتمكن جوردان من الغوص عميقًا نحو مفاهيم ملهمة جدًا.
كما قام بمناظرة مع مات ديلهنتي Matt Dillahunty وصف بها جميع الملحدين بالقتلة استنادًا لرواية دوستويفسكي “الجريمة والعقاب” كبطل الرواية روديا، قائلًا عن ديلهنتي أنه ليس ملحدًا فهو يتصرف كما لو أن الله موجود. ليرد عليه ديلهنتي بأن بيترسون يشبه كثيرًا أصدقاءك عندما تقول لهم أنك ملحد ليردوا باندهاش: «ماذا؟! أنت ملحد؟! كيف يمكن هذا؟! فأنت شخص طيب!!».
كما أرسى ديلهنتي عدة أدوات وآليات لبناء أيديولوجيا أخلاقية إنسانية علمانية تعتمد في جوهرها على التشكيك والتدقيق والملاحظة والتجريب. ننصحكم بمشاهدة هذه المناظرة -مترجمة للعربية- التي وصفها سام هاريس بالجديرة بالاهتمام: مات ديلهنتي وجوردان بيترسون .
ومن أكثر مقابلاته مشاهدةً أيضًا حواره مع الناشطة النسوية هيلين لويس Helen Lewis على قناة BRITISH GQ الترفيهية والتجميلية للرجال، وحديثه عن أن النساء يضعن مستحضرات التجميل لكي يظهرن كالفاكهة الناضجة ولكي يظهرن خصبات جنسيًا، مظهرات أعراض مشابهة للخصوبة الجنسية بوضعهن لتلك المستحضرات.
كما أشار إلى أن المفهوم الماركسي عن التمييز بين الرجل والمرأة بنية اجتماعية صناعية خاطئة وأن هناك أساسات بيولوجية تدعم الاختلافات بين الرجل والمرأة، داعمًا قوله بدراسة في الدول الاسكندنافية -التي تعتبر أكثر دول العالم مساواةً بين المرأة والرجل- تقول أن الفروقات في الاختيارات المهنية والوظيفية بين الجنسين قد ازدادت ولم تنقص، ما وضع الماركسيين في حيرة وصدمة.
فعندما قامت المجتمعات والحكومات الاسكندنافية بتقليص الفوارق الاجتماعية بين الجنسين أخذت الفوارق البيولوجية مجدها، وبقيت نسبة النساء مهيمنةً في قطاعات الرعاية الشخصية والإدارة، وبقيت نسبة الرجال مهيمنةً في القطاعات التقنية والصناعية، ويعزو بيترسون ذلك الى أن النساء مهتمات أكثر بالأشخاص والناس عمومًا، بينما الرجال مهتمون أكثر بالأشياء، المقابلة كاملة: مقابلة BRITISH GQ مع جوردان بيترسون .
ارتكب بيترسون العديد من الأخطاء التي اعترف بها بخجل لاحقًا، مثل نشره لعدة تغريدات على تويتر ينكر بها الاحتباس الحراري والتغير المناخي، ولكنه أعاد الكرة عدة مرات منها في تجمع كامبريدج الجامعي Cambridge Union، إذ كان بيترسون يذهب من بلد لبلد خلال هذه الفترة، يطوف العالم ليحاضر الناس حرفيًا عن “إيجاد معنى لحياتهم باعتناقهم لمسؤولياتهم” ثم يرد بعنجهية على سؤال مبهج عن العلو عن الخلافات السياسية لمواجهة التغير المناخي: «لا يمكنكم أن تطلبوا من الناس تغيير نمط حياتهم ليتناسب مع توفير الطاقة والموارد! ولا حتى من أجل إنقاذ كوكبنا وعالمنا وصنفنا؟!» المقابلة كاملة: Cambridge Union مع بيترسون .
مفتاح الشهية لبيترسون هو أيضًا ضعفه الأكبر. فهو يريد أن يكون الرجل الذي يعرف كل شيء ويمكنه شرح كل شيء، دون مؤهل أو خطأ. في مقابلته مع نيومن، تظاهر بأنه صخرة لا تشوبها شائبة من الأدلة القوية والحس السليم.
لكن حججه مليئة بنظريات المؤامرة والتشوهات الفجة للمواضيع، بما في ذلك حديثه عن عصر ما بعد الحداثة والهوية الجنسية والقانون الكندي، التي تقع خارج مجال خبرته. لذلك، ليست هناك حاجة لتشويه أفكاره من أجل تحديها. وبالرغم من أن منتقديه سيتمكنون من ذلك، فإنه من غير المرجح أن تنهار موجة جوردان بيترسون في أي وقت قريب.
حاشية:
*اللباقة السياسية (الصواب اللبق): عبارة عن مجموعة من القواعد والأفكار والمصطلحات والقيود المجازية والوظيفية والتنفيذية، تهدف إلى صياغة الفكر والخطاب والحوار والكتابة بأسلوب حيادي متزمت يتجنب الإساءات والإهانات للأشخاص والكيانات والأعراق والأديان والثقافات الأخرى.
*محاربون من أجل العدالة الاجتماعية: وهو مصطلح يشار به إلى مجموعة من الناشطين على الأرض وعلى مواقع الإنترنت في سبيل العدالة الاجتماعية، كان يُقصَد به المدح الإيجابي حتى تسعينيات القرن الماضي، لكن المعنى منه انقلب إلى قدح مهين، يقصد به الأشخاص الذين يحاولون رسم الآخرين زورًا على أنهم مستبدون ويغيظون بعنجهية، فقط لكي يشعروا بشكل أفضل حول أنفسهم.
*ندف الثلج: مصطلح يقصد به سلبًا للأشخاص الرقيقون ذو الحساسية الزائدة للإهانات والإساءات. *سياسات الهوية: هي مجموعة من السياسات والبرامج الانتخابية التي أفادت العديد من المرشحين السياسيين عن طريق تقسيم الشعب وخلق فئات شعبية بناءً على هويات مختلفة عرقية وإثنية ودينية وجنسية، وضمها في صفهم ووعدها بإعطائها تمثيل وحقوق وحريات أكثر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بك وتشرفنا بزيارتك وتعليقك الكريم
سنقوم بالرد على سؤالك فى خلال وقت قصير ان شاء الله
ويمكنك التواصل معنا على رقم الواتس
00966558187343
او زيارة صفحتنا على الفيس بوك https://www.facebook.com/LouaiHassan.HR
وترك تعليقك فى الخاص وسنقوم بمساعدتك فورا
مع اجمل التحيات والامنيات بحياة سعيدة مباركة