الغريزة هي التصرف الفطري للكائنات الحية تجاه سلوك أو نمط معين من السلوكيات، مميزة للأنواع، وهي غالبًا ما تكون ردود فعل على محفزات بيئية معينة. تملك كل أنواع الحيوانات مميزات وأنماط استجابة أو تفاعل موروثة بشكل عام، والتي تستخدمها في بيئات مختلفة من دون وجود تعليمات رسمية، أو تعلم، أو أي تأثيرات بيئية أخرى أكثر من حاجتها للبقاء. مثال على السلوك الغريزي: تتحرك السلاحف البحرية التي تفقس على الشاطئ تلقائيًا نحو المحيط، ويتواصل نحل العسل عن طريق الرقص في اتجاه مصدر الغذاء، تلك أمثلة على غرائز حيوانية تحدث من دون تعليمات رسمية.
تُعتبر الغريزة ميلًا فطريًا للتصرف سببها المنبهات الخارجية، إلا إذا غلب عليها الذكاء، عندها يعتبر الكائن مبدعًا وأكثر تنوعًا. من الأمثلة عن السلوكيات الحيوانية التي لا تستند إلى تجربة سابقة: التكاثر والتغذية بين الحشرات، والقتال بين الحيوانات، وسلوك المغازلة الحيوانية، و غرائز الهروب الداخلية، وبناء الأعشاش. يظهر السلوك الغريزي عند طيف واسع من الحياة الحيوانية، وصولًا إلى البكتيريا التي تدفع نفسها نحو المواد المفيدة، وبعيدًا عن المواد الطاردة.
ليس هناك إجماع على وجود تعريف دقيق للغريزة والسلوكيات البشرية التي يمكن اعتبارها غريزيةً. تزعم بعض التعاريف المحددة أنه لكي يكون السلوك غريزيًا، يجب أن يكون تلقائيًا ولا يمكن مقاومته، وتسببه المحفزات البيئية، ويحدث عند جميع أفراد النوع، وغير قابل للتعديل، ولا يحتاج إلى تدريب.
بناءً على هذه المعايير الصارمة، لا يوجد سلوك بشري غريزي. وبالمثل، يعتبر بعض علماء الاجتماع أن الغرائز هي سلوكيات فطرية موجودة في جميع أفراد أي نوع ولا يمكن التغلب عليها، ولكن لأن الحاجة للجنس والجوع يمكن التغلب عليها، فإن هذا التعريف يؤدي أيضًا إلى وجهة نظر مفادها أن البشر ليس لديهم غرائز.
من ناحية أخرى، يعتبر آخرون أن بعض السلوكيات البشرية هي غريزية، مثل المنعكسات الغريزية عند الأطفال (كتبعيد أصابع القدم عند ملامسة أخمص القدم)، نظرًا لأن ذلك لم يتم تعلمه، وكذلك بعض السمات الأخرى مثل الإيثار وردات الفعل السريعة (fight or flight response). لا يزال هذا المفهوم موضع جدل كبير.
من المنظور الديني، قد تُعزى بعض الغرائز “النفسية” المنسوبة إلى البشر، مثل الإيثار والشعور بالإنصاف وما إلى ذلك، إلى “الضمير” أو إلى روح العقل، إذ اعتُبرت جوانب فطرية للطبيعة الروحية البشرية، بدلًا من اعتبارها ظاهرة فيزيائية بحتة. وبالمثل، على مستوى آخر، قد تتضمن المفاهيم الدينية أو الفلسفية غرائز معترفًا بها عمومًا كجزء من “العقل المادي” (الطابع الداخلي) للحيوان أو الإنسان، بدلاً من “الجسد المادي” (شيء خارجي مثل جزء من الحمض النووي).
من المثير للجدل ما إذا كانت الكائنات الحية مُلزَمة تمامًا بالغريزة. على الرغم من أن الغريزة تُكتسب بشكل طبيعي أو ربما مع الوراثة، إلا أن التكييف العام والبيئة المحيطة بالكائنات الحية تلعب دورًا رئيسيًا فيها. في الغالب، تُعتبر الغريزة ما قبل فكرية (لا تحتاج لذكاء)، في حين يُعتبر الحدس فكريًا (يعتمد على الذكاء والفطنة).
يُعد سلوك دحرجة البيضة للإوز مثالاً مُستشهدًا به على نطاق واسع لنمط الفعل الثابت، وهو أحد المفاهيم الأساسية التي يستخدمها أخصائيو السلوك في شرح سلوك الحيوان.
نظرة عامة حول الغريزة
من الناحية الفنية، يُطلق على أي حدث ينتج سلوكًا غريزيًا بالمحفز الرئيسي (Key Stimulus -KS). تؤدي المحفزات الرئيسية بدورها إلى آليات إطلاق فطرية (Innate Releasing Mechanisms -IRM)، والتي بدورها تنتج أنماط فعل ثابتة (Fixed Action Patterns -FAP).
أنماط الفعل الثابتة هي سلوكيات نمطية تحدث في تسلسل ثابت يمكن التنبؤ به استجابة لمحفز بيئي محدد. على سبيل المثال، عند رؤية بيضة بالقرب من العش، فإن الإوزة ستعيد هذه البيضة للعش بمنقارها.
إذا سُحبت هذه البيضة، فإن الإوزة تواصل هذا السلوك، وتسحب رأسها للخلف كما لو أنها مازالت تقوم بدحرجة هذه البيضة بواسطة الجانب السفلي من منقارها. وستحاول أيضًا تحريك أي شيء آخر له شكل بيضة، مثل كرة الغولف أو مقبض الباب أو حتى بيضة كبيرة جدًا لا تستطيع الإوزة نفسها وضعها.
مثال آخر على نمط الفعل الثابت: ينقر طائر النورس على بقعة حمراء موجودة على منقار والدته لتحفيز منعكس القلس.
قد يكون هناك حاجة إلى أكثر من محفز رئيسي واحد لبدء نمط فعل ثابت -FAP. تُعتبر خلايا المستقبلات الحسية مهمة في تحديد نمط بدء الفعل الثابت. على سبيل المثال، قد يؤدي استقبال الفيرومونات عبر خلايا المستقبلات الحسية الأنفية إلى حدوث استجابة جنسية، في حين أن استقبال “صوت مخيف” عبر خلايا المستقبلات الحسية السمعية قد يؤدي إلى حدوث ردات فعل واستجابة سريعة Fight or Flight response.
تساعد الشبكات العصبية لهذه الخلايا الحسية المختلفة في دمج الإشارة من العديد من المستقبلات لتحديد درجة المحفز الرئيسي KS، وبالتالي إعطاء استجابة مناسبة.
يتم تحديد العديد من هذه الاستجابات بواسطة رسائل كيميائية منظمة بعناية تُسمى الهرمونات. يتكون الجهاز الغدي، المسؤول عن إنتاج الهرمونات ونقلها في جميع أنحاء الجسم، من العديد من الغدد الإفرازية التي تنتج الهرمونات وتطلقها لنقلها إلى الأعضاء المستهدفة. على وجه التحديد في الفقاريات، يتم التحكم في هذا النظام العصبي بواسطة الوطاء حتى الغدة النخامية الأمامية والخلفية.
سواء أكانت الاستجابة السلوكية لأحد المحفزات المعينة مكتسبة بالتعليم أم أنها وراثية أو كلاهما، فهي محور الدراسة في مجال علم الوراثة السلوكي. يستخدم الباحثون طرقًا مثل زواج الأقارب ودراسات الاستبعاد لفصل التعلم والبيئة عن التحديد الجيني للسمات السلوكية.
وخير مثال على غريزة فورية موجودة عند أنواع معينة من الطيور هو الانطباع. هذا هو السلوك الذي يتسبب في تتبع الإوز لأول كائن متحرك يصادفه، والتي تكون والدته. أُنجز الكثير من العمل حول هذا المفهوم من قبل عالم النفس كونراد لورنز -Konard Lorenz.
تعتبر الغرائز عمومًا أفعالًا خارجية للكائن الحي، وبالتالي فهي ليست سلوكيات مثل التنفس المستمر والجوع والدافع الجنسي وما إلى ذلك، والتي تعتبر على قدم المساواة مع القدرة البصرية أو السمعية أو اللمس أو التذوق.
تأثير بالدوين
في عام 1896، قدم جيمس مارك بالدوين James Mark Baldwin “عاملًا جديدًا في التطور” يمكن من خلاله توارث الخصائص المكتسبة بشكل غير مباشر. هذا “العامل الجديد” أُطلق عليه اسم المرونة المظهرية: وهي قدرة الكائن الحي على التكيف مع بيئته خلال حياته.
تعد القدرة على التعلم المثال الأكثر وضوحًا على المرونة المظهرية، على الرغم من وجود أمثلة أخرى كزيادة سُمرة الجلد عند التعرض للشمس، أو تشكيل الدشبذ عند حدوث تآكل عظمي، أو زيادة قوة العضلات عند ممارسة الرياضة. بمرور الوقت، أصبحت هذه النظرية معروفة باسم “تأثير بالدوين – Baldwin Effect”.
يعمل تأثير بالدوين في خطوتين. أولاً، تسمح المرونة المظهرية للفرد بالتكيف مع طفرة ناجحة جزئيًا، والتي قد تكون عديمة الفائدة تمامًا للفرد. إذا أضافت هذه الطفرة توافقًا شاملًا فإنها ستنجح وتنتشر بين السكان. المرونة المظهرية عادة ما تكون مكلفةً للغاية بالنسبة للفرد، إذ يتطلب التعلم الوقت والطاقة، وفي بعض الأحيان قد يؤدي لأخطاء خطيرة.
لذلك، هناك خطوة ثانية: إذا تواجد وقت كاف، فقد يجد التطور آلية ثابتة تحل محل الآلية المرنة. وفقًا لهذا، قد يصبح السلوك الذي تم تعلمه ذات مرة (الخطوة الأولى) غريزيًا في الوقت المناسب (الخطوة الثانية). للوهلة الأولى، يبدو هذا مطابقًا لتطور لاماركيان Lamarckian evolution، لكن من دون تغيير مباشر في النمط الوراثي، بل بالاستناد إلى النمط الظاهري.
الغريزة عند البشر
التعريف العلمي: كان لمصطلح “الغريزة” استخدام طويل ومتنوع في علم النفس. في سبعينيات القرن التاسع عشر، أنشأ وندت -W. Wundt أول مختبر لعلم النفس. في ذلك الوقت، كان علم النفس يعد في الأساس فرعًا من الفلسفة، لكن أصبح السلوك يُفحص بشكل متزايد في إطار المنهج العلمي. لقد أصبح هذا الأسلوب هو المسيطر على جميع فروع العلوم.
أدى استخدام الوسائل العلمية إلى وضع تعريفات صارمة للمصطلحات على نحو متزايد، وبحلول نهاية القرن التاسع عشر كان السلوك الأكثر تكرارًا يُعتبر غريزيًا. في دراسة استقصائية للأدب في ذلك الوقت، أرخ أحد الباحثين 4000 غريزة إنسانية، ما يعني أنه أطلق تسمية الغريزة على أي سلوك متكرر.
عندما أصبح البحث أكثر صرامة وتطور وضع المصطلحات، أصبح استخدام مصطلح الغريزة كتفسير للسلوك البشري أقل شيوعًا. في مؤتمر عُقد في عام 1960 حضرته شخصيات بارزة في هذا المجال، وترأسه فرانك بيتش Frank Beach، وهو رائد في علم النفس المقارن، تم تقييد استخدام هذا المصطلح.
خلال الستينيات والسبعينيات، كانت الكتب لا تزال تحوي بعض النقاشات حول الغرائز في إشارة إلى السلوك البشري. بحلول عام 2000، كشفت دراسة استقصائية أُجريت عن أفضل 12 كتابًا مبيعًا في مدخل علم النفس عن واحد فقط يتعلق بالغرائز، وكان ذلك مماثلًا لفكرة فرويد التي أشار لها بما يتعلق بـ “غرائز الهوية”.
يمكن أن يسمى أي سلوك متكرر “غريزيًا”، بالإضافة لأي سلوك له مكون فطري قوي. ومع ذلك، لتمييز السلوك الخارج عن سيطرة الكائن الحي عن السلوك الذي يحتوي على مكون متكرر، يمكن اللجوء إلى كتاب الغريزة (1961) المُنبثق عن مؤتمر عام 1960. تم وضع عدد من المعايير التي تميز الغريزة عن أنواع السلوك الأخرى.
لكي يُعتبر السلوك غريزيًا، يجب أن يكون: ١- تلقائيًا، ٢- لا يُقاوم، ٣- يحدث في مرحلة ما من التطور، ٤- ينشأ عن حدث ما في البيئة، ٥- يحدث عند كل فرد من الأنواع، ٦- غير قابل للتعديل، ٧- التحكم بالسلوك من دون أن يحتاج الكائن الحي إلى تدريب (على الرغم من أن الكائن الحي قد يستفيد من التجربة وإلى هذه الدرجة يكون السلوك قابلاً للتعديل). يشير غياب واحد أو أكثر من هذه المعايير إلى أن السلوك ليس غريزيًا تمامًا.
إذا تم استخدام هذه المعايير بطريقة علمية صارمة، فلا يمكن استخدام مصطلح “الغريزة” للإشارة للسلوك البشري. وبمعنى آخر، في ظل هذا التعريف، لا توجد غرائز بشرية.
المحركات الغريزية، والمنعكسات الغريزية، والصفات المنظور على أنها غرائز
حاول بعض علماء الاجتماع والسلوك فهم السلوك البشري والحيواني من الجانب الغرائزي. وقد صرَّح المحللون النفسيون بأن الغريزة التي تشير لقوى تحفيزية بشرية (مثل الجنس والعدوان) تُمثَل أحيانًا على أنها غرائز الحياة والموت. استُبدل مصطلح القوى التحفيزية أساسًا بمصطلح “محركات غريزية”.
يمكن أيضًا ملاحظة الغرائز عند البشر فيما يسمى المنعكسات الغريزية. تشاهَد هذه المنعكسات، مثل منعكس بابنسكي -Reflex Babinski (تبعيد أصابع القدم عند ملامسة أخمص القدم)، عند الأطفال، وهي تدل على مراحل التطور. يمكن اعتبار هذه المنعكسات غريزية، لأنها عمومًا خالية من التأثيرات البيئية أو التكيف.
السمات البشرية الأخرى التي تم النظر إليها على أنها غرائز هي: الإيثار، والاشمئزاز، وإدراك الوجوه، واكتساب اللغة، وردود الفعل السريعة (Fight or Flight response) و “الإخضاع أو الخضوع”.
لقد توصلت بعض التجارب عند البشر والقرود أيضًا إلى استنتاج مفاده أنه يمكن اعتبار “الإحساس بالإنصاف” غريزيًا، إذ أن البشر والقردة على استعداد لإلحاق الضرر بمصالحهم الخاصة للاحتجاج على المعاملة غير العادلة للذات أو للآخرين.
يقول علماء اجتماع آخرون بأن البشر ليس لديهم غرائز، ويعرفونها على أنها “نمط معقد من السلوك الموجود عند كل نموذج من نوع معين، وهي أمر فطري، ولا يمكن التغلب عليها”.
يقول علماء الاجتماع إن بعض المحركات والمثيرات التي لا يمكن التغلب عليها كدوافع الجنس والجوع لا يمكن اعتبارها غرائز، إذ أنه يمكن كبحها. هذه الحجة موجودة في العديد من كتب مدخل علم الاجتماع والبيولوجيا، لكنها ما زالت موضع جدل كبير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بك وتشرفنا بزيارتك وتعليقك الكريم
سنقوم بالرد على سؤالك فى خلال وقت قصير ان شاء الله
ويمكنك التواصل معنا على رقم الواتس
00966558187343
او زيارة صفحتنا على الفيس بوك https://www.facebook.com/LouaiHassan.HR
وترك تعليقك فى الخاص وسنقوم بمساعدتك فورا
مع اجمل التحيات والامنيات بحياة سعيدة مباركة