03‏/12‏/2019

نفسك الحقيقية و المزيفة

نفسك الحقيقية ونفسك المزيفة

نولد جميعاً ولدينا احتياجات نفسية بسيطة جداً، احتياج للحب، للقبول، للاهتمام، احتياج للاحترام، احتياج لأن تجد من يراك ويحسك ويشعر بك ويقدرك، احتياج أن تقول (لا) عند اللزوم، وغيرها.
وتكون الوظيفة الأساسية للأم والأب أثناء التربية هى تلبية هذه الاحتياجات بشكل مناسب وبقدر كاف، حتى ننمو نمواً نفسياً سليماً، وتكتمل صحتنا النفسية كما يجب، لكن فى الحقيقة، لا يحدث هذا دائماً.

ما يحدث هو أن الطفل يكتشف أثناء التربية أنه لكي تتم تلبية احتياجاته الأساسية يجب عليه أن يدفع مقابلاً، بمعنى:

اسمع الكلام كي أحبك.
اشرب اللبن لتكون طفلاً جيداً.
لا تقل لي لا لأقبلك.

وكثير غيرها من الرسائل النفسية التى قد تصل من خلال تصرفات وسلوكيات ونظرات، وأحياناً عقاب الأب والأم، فيتحول الحب إلى حب مشروط، والقبول إلى قبول مشروط، والاحترام إلى احترام مشروط، وهكذا.. كل شيء بمقابل، وكل احتياج بشروط.

ماذا يفعل صاحبنا الطفل إذن كي يشبع احتياجه من الحب والقبول والاهتمام ممن حوله؟

سيفعل ما هو صعب ومؤلم للغاية، سيدفع الثمن، سيرضى بالمقابل، سيضطر ألا يكون نفسه، ويكون كما يريدون، لأنه، وبكل بساطة، محتاج.

يقرر الطفل فى سن معينة (بعض النظريات والأبحاث تقول إنها من خمس إلى سبع سنوات)، أن يقوم بعملية تجميل نفسية، نعم عملية تجميل، حتى يناسب الوضع المحيط به، بمعنى أن يقوم بتعديل نفسه وإعادة ضبطها على المقاس الذى يريده من حوله، كي يصله منهم بعض الحب، وقليل من الاهتمام، وربما شيء من الاحترام والتقدير لإنسانيته واحتياجاته.

يقرر حينها ألا يكون نفسه التي ولد بها، وأن يكون النفس التي يريدونها عليها.

يريدونه أن يسمع الكلام، فيسمع الكلام.
يريدونه ألا يقول (لا)، فلا يقولها حتى يصبح في نظرهم (مؤدباً).
يريدونه ألا يكون تلقائياً وأن يتحول إلى آلة صماء بكماء، فليفعل.
وبعدها يريدونه أن يحفظ الدروس وأن يحصل على الدرجات النهائية على حساب فرحته وأوقات لعبه وإبداعه، فليكن.
ثم يريدونه أن يكون أول العالم فى الثانوية العامة، وأن يدخل كلية الطب أو الهندسة، ويحقق أحلام وطموحات أبيه وأمه وخاله وعمته، حسناً.

وذلك بالطبع بعد كثير من المقاومة والصراع الذى ينتهي غالباً بالاستسلام.

يقرر الطفل بكل بساطة أن يشوه نفسه لحساب الآخرين كي يرضيهم، يقرر أن يتكيف مع الوضع القائم، والواقع المفروض عليه، حتى يحمي نفسه من الأذى النفسي، وأحياناً البدني.

يقرر أن يدفن (نفسه الحقيقية) الفطرية الخالصة التي خلقها الله له، حتى يحميها ويحافظ عليها فى مكان سري عميق، ويعيش (بنفس مزيفة) مصطنعة، تجيد التعامل مع من حوله.

وتظل (نفسه الحقيقية) حية نابضة، ولكنها كامنة ومختبئة داخله، فى انتظار أن تطمئن، وتأتنس، وتشعر بالدفء، حتى تخرج، وتحيا من جديد.

فلنكن الآن صرحاء قليلاً مع أنفسنا: من منا لم يحدث معه ذلك؟ ومن منا لم يفعل ذلك مع أطفاله؟

من يبحث جيداً، سيكتشف أن كلاً منا قد قام (غالباً) بدفن جزء واحد على الأقل من نفسه الحقيقية في إحدى مراحل حياته لسبب أو لآخر، هناك من دفن تلقائيته، ومن دفن فرحته، ومن دفن انطلاقه، ومن دفن صوته العالي، ومن دفن بعض قدراته وإمكاناته، ومن اضطرت أن تدفن أنوثتها، ومن اضطر أن يدفن رجولته، ويعيش الشخص حياته كلها بـ (نفس مزيفة) طافية على السطح، و(نفسه الحقيقية) مدفونة فى القاع.

والمشكلة الأكبر فى كل ذلك أن هناك بعض المجتمعات (وطبعاً بعض البيوت والعائلات)، تشجع أبناءها على دفن تلك الأجزاء الثمينة الغالية من أنفسهم، حتى يستطيعوا العيش في تلك المجتمعات أو البيوت، بل أنهم أحياناً يصفقون لهم على ذلك، ويكافئونهم ويكرمونهم.

فبيوتنا بطريقة تربيتها تشجع الطفل الهادئ المسالم المطيع الذي لا يفكر، ولا ينقد، ولا يفعل غير المطلوب منه.

ومدارسنا وتعليمنا لا تريد سوى الطالب الصامت المصمت الذي يحفظ المقرر من أوله لآخره، ويحل نماذج الامتحانات السابقة، ويتقيأ كل المعلومات التي لديه في ورقة الإجابة، ويتوه ويحتار لو جاءه سؤال واحد خارج المنهج المقدس.

وتلفزيوننا، وسينماتنا، وأغانينا، تتفنن بكل إبداع في نشر مظاهر الأنوثة المزيفة بكل تفاصيلها، والترويج لها بكل إتقان، وحقن الشباب بها في جرعات منتظمة وبشكل يومي.

ويضاف إليها نظرة المجتمع والمنزل والشارع ومفهومهم الخاطئ المشوه عن الرجولة، التي لا تعني سوى صوت عال، ونظرة قاسية، وعنف وعضلات، ومزيد من الزيف والتشويه والدفن.

بدون أي ادعاء لتفسير قرآننا المعجز أو تأويله، فإننا بحاجة لإعادة قراءة هذه الآية في ضوء الكلام السابق: "وإذا الموءودة سئلت، بأي ذنب قتلت".. التكوير 8-9.

الوأد قد لا يعني فقط دفن البنات الصغيرات أحياء أيام الجاهلية، بل هو ظاهرة قد تتكرر يومياً، كل نفس حقيقية معرضة للوأد عن طريق التربية القاسية، كل تلقائية وحيوية وطفولة وإمكانات مختلفة يمكن أن تتعرض للوأد عن طريق رفضها في الصغر، كل جزء من نفسك قد يتعرض للوأد في البيت أو في الشارع أو في المدرسة أو في المجتمع.

فلتعيدوا قراءة المقال ثانية، ولتعيدوا إحياء أنفسكم الحقيقية من جديد، ولترحموا أجيالاً قادمة من الوأد النفسي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهلا بك وتشرفنا بزيارتك وتعليقك الكريم
سنقوم بالرد على سؤالك فى خلال وقت قصير ان شاء الله
ويمكنك التواصل معنا على رقم الواتس
00966558187343
او زيارة صفحتنا على الفيس بوك https://www.facebook.com/LouaiHassan.HR
وترك تعليقك فى الخاص وسنقوم بمساعدتك فورا
مع اجمل التحيات والامنيات بحياة سعيدة مباركة

مشاركة مميزة

استراتيجيات الانطلاق الناجح للشركات الناشئة - من الفكرة الى التنفيذ

  إذا كنت ترغب في تعزيز خطوتك الأولى في عالم ريادة الأعمال، أو إذا كنت تمتلك فكرة لمشروع ناشئ وترغب في تحويلها إلى شركة ناجحة، أو لديك شركة ...

الأكثر مشاهدة