03‏/12‏/2019

إساءات الطفولة.. كيف يصبح الملاك وحشا؟

إساءات الطفولة.. كيف يصبح الملاك وحشا؟

"لماذا علي دوماً أن أعتذر عن كوني الوحش الذي أنا عليه، بينما لم يعتذر أحدٌ عن جعلي كذلك"؟

"لا أستطيع أن أمر في الطريق الذي يمر منه، لا أستطيع أن أواجه الناس، لقد استمرت حياته واستمتع بأسرته بينما توقفت أيامي عند الساعة التي امتدت يده فيها إلي، كيف للمستقبل أن يفتح نوراً في ظلام الماضي، أنا أكره نفسي وأكرهه وأكره الحياة".

تمثّل هاتان الحالتان التبعات التي تترتب على الإساءة، فبينما تتسبب الإساءة في مرحلة النضج إلى شروخ قوية في الشخصية، لكن إساءات الطفولة - كما ذكر فان بيسل ـ فالجسد يتذكرها، قد تشكّل الشخصية كرد فعل لها.

في الاقتباس الأول يحدث ما يسمّى بالتوحّد مع المعتدي، وترتبط هذه التبعة بالشخصية الانبساطية، والتي تتجه انفعالاتها إلى الخارج، بينما يرتبط الاقتباس الثاني بالشخصية الانطوائية، والتي تتجه انفعالاتها بشكل أساسي إلى الداخل.

أسوأ ما يمر به الناجون من إساءات الطفولة اعتبار المحيطين أنها اندثرت بواقع الزمن، يقص ذلك الأسى، خالد الحسيني، في روايته عداء الطائرة الورقية فيقول: (لقد صرت ما أنا عليه اليوم وأنا في عمر الرابعة عشرة، في يوم متجمد ومغيّم في شتاء 1975، ....، لقد كان ذلك في عهد بعيد، لكن ليس صحيحاً ما يظنه الناس عن الماضي، فكلما نظرت خلفي وجدتني ما زلت أتلفت حولي في ذلك الوادي المقحل طيلة ستة وعشرين عاماً).

والحقيقة أن أكثر الذين واجهوا إساءات الطفولة يعيشون بيننا بنفوس مزيفة خلفتها الصدمة، بينما ذواتهم الحقيقية ما زالت عالقة بعيداً في مشهد الأحداث.

أشد ما قد يعانيه الناجون هو متلازمة كرب ما بعد الصدمة PTSD حيث يعيش المرء حبيس التجربة بما تعنيه الكلمة من معنى، فهي تصحبه في يومه في صورة ارتدادات للذاكرة (أو ما يسمى فلاش باك)، وفي ليله في شكل كوابيس متعلقة بالصدمة، ويجد نفسه بشكل واعٍ أو غير واعٍ يتحاشى كل ما يتعلّق بالتجربة من أشخاص وأماكن وأشياء، بل قد يتذكر تفاصيل الاعتداء، ورائحة الطلاء، والعرق، وأصوات السيارات البعيدة التي كانت تمر حينها.

وكل هذا يحدث بسبب نشاط الدماغ العميق متمركزاً في اللوزة الدماغية (الأميجدالا)، والتي تهدف إلى تذكر الخبرات السلبية لاجتنابها في المستقبل، ولكن لأن الصدمة تمثّل خبرة غامرة فإن النشاط الزائد للوزة يتسبب في حفر ذكرى الأذى بكل تفاصيلها.

ذلك أشد ما يعانيه الناجون، أما أسوأ الاحتمالات فهو أن تتشكّل شخصية الفرد كرد فعلٍ لها، فنجد أن كثيراً من العصابيين والمعادين للمجتمع لديهم سجل من إساءات الطفولة كما سبق الإشارة في المقالة الأولى، فالصدمات لا تترك آثارها في سجل التاريخ والبنيان فقط، لكن كذلك في عقولنا ومشاعرنا وقدرتنا على المرح والحميمية، بل على بنيتنا الحيوية ومناعتنا أيضاً. 

ذلك ما لا يعيه المعتدي، ولا ينتبه إليه المجتمع، أن الأذى لا يمر ويطويه النسيان، بل تحفظه ذاكرة الجسد، وقد تتشكل في ضوئه حياة الأفراد اللاحقة.

يحكي الدكتور، ستيڤ چوردن، أستاذ علم النفس بتورنتو، عمّا يعتبره الصورة النمطية لاضطراب انحلال الشخصية (اضطراب تعدد الشخصيّات) أنه طريقة دفاعية لتوقّي أذى متكرر، فكريستين (والتي ذكرها د. ستيف جوردن في كتابه عن اضطراب التوتر) هي ابنة لوالد مدمن خمر، والذي يأتي في عدة ليال مخموراً، وقد يسيء إليها جسدياً أو جنسيّاً، لكنه في غير هذه الحال أب ودود ومحب وعطوف.

هنا يصبح لدى الطفلة خيار أن تتخلّى عن الأب الذي تحتاجه مع كل ما يمثّله ذلك من فقدان لمصدر الأمن والحماية، وهنا يتدخّل اللاوعي بحيلة دفاعية، وهي التحلل لشخصية أخرى تقابل هذا الوالد في حالة السكر، وتتعامل معه بما استطاعت من قوى البقاء، وتحتفظ بذاكرة الإساءة لنفسها، وحين تنتهي هذه الحالة تعود الشخصية الأولى للظهور كطفلة بريئة يمكنها أن تستمتع بحب ودفء هذا الأب غير مدركة للحال الأخرى. 

على الرغم من أن الإحصاءات التي قدمتها هي إحصاءات غربية إلا أنه لا يوجد مبرر علمي لافتراض نتائج أفضل في مجتمعاتنا العربية، لكن الفرق الجوهري هو أننا الأقل تصدياً لهذه الإساءات على كافّة المستويات، بدءاً من الرصد ووصولاً إلى التدخّل لتدارك الأثر، وهذا التدخّل لا ينبغي أن يقتصر على الناجين من الأذى فقط، بل إعادة تأهيل وتوجيه المعتدي أيضاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهلا بك وتشرفنا بزيارتك وتعليقك الكريم
سنقوم بالرد على سؤالك فى خلال وقت قصير ان شاء الله
ويمكنك التواصل معنا على رقم الواتس
00966558187343
او زيارة صفحتنا على الفيس بوك https://www.facebook.com/LouaiHassan.HR
وترك تعليقك فى الخاص وسنقوم بمساعدتك فورا
مع اجمل التحيات والامنيات بحياة سعيدة مباركة

مشاركة مميزة

استراتيجيات الانطلاق الناجح للشركات الناشئة - من الفكرة الى التنفيذ

  إذا كنت ترغب في تعزيز خطوتك الأولى في عالم ريادة الأعمال، أو إذا كنت تمتلك فكرة لمشروع ناشئ وترغب في تحويلها إلى شركة ناجحة، أو لديك شركة ...

الأكثر مشاهدة