17‏/02‏/2016

البارانويا أو الهذيان المتماسك

يؤول المصاب بالبارانويا الأحداث الواقعية تبعا لسيناريو جد مستبعد ، لكنه مبني ومشيد بشكل دقيق ، إلى حد أن المصابين بهذا النوع من المرض يتمكنون أحيانا وينجحون في إقناع المحيطين بهم . .
كلودي بيرت
بقلم : كلودي بيرت
ملفات مجلة العلوم الإنسانية الكبرى رقم : 20
شتنبر -أكتوبر – نونبر2010
مرض البارانويا
لفظة بارانويا Paranoïaمشتقة من الكلمتين الإغريقيتين « Para » [” بجانب”]و « nous »[“العقل “] . واليونانيون كانوا يدعون « Paranous » كل أولئك الذين يبدو عليهم خلل في العقل أو هم مجانبون له. ولقد عاد هذا اللفظ ليظهر بقوة في القرن 19 لدى علماء النفس الألمان للإشارة إلى هذيان العظمة أو الشعور بالاضطهاد.وقد عرفه إميل ترابلين سنة 1904 بأنه هذيان منظم متميز عن الهذيان الذي نجده لدى الفصاميين؛ فالمصاب بالبارانويا لا يرى بالفعل فيلة وردية أو ذات أجنحة، لأنه يدرك الأشياء والأشخاص والأحداث كما هي في الواقع ، غير أنه يؤولها تأويلا هذيانيا.
في DSM-IV الأمريكي ، كما هو الحال في CIM-10 لدى المنظمة العالمية للصحة تصنف البارانويا في خانة ” الاضطرابات الهذيانية ” المستدامة و ” المقبولة non bizarres ” ؛ أي أنها مرتبطة حقيقة بأوضاع يمكن أن نصادفها أو لا نصادفها.
ويمكننا أن نميز بين مختلف التصنيفات المندرجة في خانة البارانويا حسب مجال الهذيان : بارانويا الاضطهاد ، وهو المتوافر والمتواجد بشكل كبير، أو بارانويا الغيرة ، أو بارانويا المس الشبقي أو الولع الجنسي ( المريض فيه مقتنع بأن محبوب من قبل أحد معارفه أو أنه مشهور ) جنون التعاظم ( فالمريض يرى أن لديه مهمة تتمثل في إنقاذ الإنسانية) أو المريض بالوهم أو المصاب بوسواس المرض ( يعتقد أنه مصاب بجميع أنواع الأمراض والآلام).
توجد فيما بين هؤلاء المرضى ،رغم اختلاف أمراضهم، قواسم مشتركة ؛ فقدراتهم العقلية تظل سليمة ، ويظل سلوكهم عاديا خارج مجال مرضهم ، حتى أنهم يحافظون دوما على نشاطهم المهني عاديا ، فهذيانهم متماسك ، وتبدو طريقة تفكيرهم أحيانا جد معقولة ومقنعة، كما يملكون القدرة أحيانا على أن يظهروا أكثر قدرة على إقناع أشخاص آخرين بهذيانهم ، وعلى الأخص أزواجهم أو زوجاتهم ، حيث يتم الحديث في هذا الحالة عن ” حمق مزدوج ” ، وأحيانا يتمكنون من إقناع كافة الأسرة أو مجموعة بشرية بأكملها : فألغور جيم جونس نجح في جر كافة أعضاء معبد الشمس إلى غابة غويانا ونجح في إقناع أعضائه ال 914 بأن الانتحار معه هو أفضل بكثير من العيش في عالم شيطاني.
من حالة السواء إلى حالة الحمق
نحن هنا في مجال الهذيان ، مجال الحمق ، ومع ذلك فالنعت ” paranoïaque ” وبصيغته المختصرة بارانو  « Parano » مستخدم بشكل دارج ؛ويجد هذا التبسيط تفسيره في كون أننا نلتقي  بردود الأفعال المنتمية لهذا المرض في طرفي سلم الدرجات الطويل الذاهب من الحالات السوية إلى الحالات المرضية.الحالات السوية :ردود أفعال  (الحساسية المفرطة ) في الوضعيات التي نشعر فيها بالضعف : تلميذ جديد ، مستخدم جديد … خطوة زائدة إلى الأمام فنجد الأشخاص الذين لديهم خاصية أو خاصيتان من خواص المرضى بالبارانويا : فهم يعتقدون دائما أن الآخرين يريدون خداعهم وخيانتهم ، ويريدون دائما أن يكونوا هم أصحاب الحق… إلا أن هذه نزوعات موجودة ، ونحن لحد الآن لا زلنا في مجال الحالات السوية.خطوة أخرى فنغادر هذا المجال : ف ” الشخصية المرضية لدى المريض بالبارانويا ” هي مصنفة من قبل موسوعات علم النفس ضمن ” اضطرابات الشخصية ” ،والسمة التي تضعها هذه الموسوعات في المقدمة وتعطيها الصدارة، هي الحذر الذي يمارسه المريض اتجاه الآخرين كلهم ، هذا الحذر الذي يتفاقم بفعل كونه ” يجعل من ذاته بشكل دائم وأبدي مرجعية إصدار الأحكام ، وكل ذلك مصاحب بشكل خاص جدا بإعلاء متزايد ومتضخم لقيمته وأهميته هو كشخص” ، وإذا ما استخدمنا عبارات   CIM-10 : إذا ما أخطأ بقال في الحساب وهو يعيد لهذا المريض ما تبقى من النقود بعد استخلاص ثمن البضاعة، فإن المريض يعتبر ذلك عملا مقصودا وليس بريئا ، وإذا ما حكى أحدهم نكتة تتعلق بشخص ما ، فإن هذا الحاكي يقصده ويستهدفه هو بالذات. إن هذه السمات تسيطر على الشخصية وتظل قائمة ، بل تتزايد قوتها لأن الواقع يتدخل ليؤكد ادعاءات المريض بالبارانويا: إنه يبدو كثير التشكك إزاء المحيطين به حتى يدفعهم للابتعاد عنه ، وهو فظ السلوك إزاءهم مما يجعلهم يتحولون إلى أشخاص يمارسون الفظاظة إزاءه أيضا.
وفي نهاية المشوار نصل إلى مرحلة الهذيان: فالمريض يكون قد شيد لنفسه عالما ، هو بالنسبة له ، العالم الحقيقي والواقعي الوحيد، و لا يمكن لأي برهان كيفما كان أن يجعله يشك في معتقده ذاك.مثالان مرتبطان بالغيرة يجعلانا نفهم بشكل أفضل الفارق بين ” شخصية البارانوياك ” و اضطراب البارانويا الهذياني”:
  1. عمر طلب من طبيب نفسي مساعدته على التخلص من الغيرة؛ فمنذ أن أصبح لدى صديقته زميلان في العمل وهو يشك في أنها تقيم علاقة مع أحدهما، وهو لا يستطيع أن يمنع نفسه من تعذيبها بأسئلته وشكوكه.وقد انتقل أحد زميلي صديقته إلى مصلحة أخرى ، فشعر عمر بالاطمئنان … لكنه رأى صديقته تتبادل أطراف الحديث مع الزميل الآخر المتبقي: فعاد من جديد إلى الغرق في دوامة غيرته. ” غير أنه ليس متأكدا بشكل لا يقبل الشك و لا يشيد سيناريوها هذيانيا يمكن أن يوافق عليه بدون شروط [1]“.
  2. بوليس النجدة جاء إلى المستشفى برجل قام بضرب زوجته بعنف ، فاستجوبه الطبيب النفسي :
” لماذا ضربتها ؟..”
” إنها تخونني منذ عدة أشهر ”
” لماذا تضربها اليوم بالضبط ؟ ..”
” أمس مساء ادعيت أن لدي اجتماع عمل وخرجت من البيت ، وكنت قد وضعت جهاز تسجيل تحت السرير ، والآن لدي الدليل على خيانتها.”
ثم شغل جهاز التسجيل ، فلم يصدر أي صوت عنه .
” إذن ؟ .. ” صاح في وجهه الطبيب النفسي ، لكن المريض أجاب مهللا منتشيا بانتصاره :
” لقد أخذا حذرهما بطبيعة الحال فلم يتكلما ” [2]
إن لدى زوجته عشيقا ، و لا أحد يمكن أن يجعله يشك في هذا الاقتناع ، إن هذيانه يتطور بشكل ” شبكي ” أخطبوطي: فكل حدث يؤول باعتباره دليلا على خيانة الزوجة ، وكل شخص مرتبط بهذا الحدث ينظر إليه باعتباره شريكا أو متهما.
من أين تأتي البارانويا؟..
إن الميكانيزم الأساسي الذي تعطاه الأولوية من قبل المحللين النفسيين بخصوص مرض البارانويا هو الإسقاط: ” إن تصورات المرضى عن أنفسهم هم ذواتهم هو ما يبدو لهم و ما يعتبرونه لا يطاق وغير قابل للتحمل (…) ومن يعتقد أنه تصرف بشكل غير عادل يقول عن نفسه إنه ضحية ومضطهد [3]” لقد كان فرويد على الأخص هو من قام بتجريم رفض الاعتراف بالميول الجنسية المثلية لدى المريض من خلال هذا التحليل : ” ليس أنا من يحب الرجال ، إن زوجتي هي التي تحبهم”،  الإدمان على الكحول في هذه الحالة هو حاضر في غالب الحالات.ولقد لاحظنا أيضا وجود نسبة مائوية أكثر ارتفاعا من الفصاميين في كنف أسر المصابين بالبارانويا ، لنضف أيضا أن شخصية مصابة بالبارانويا يمكن أن تتطور في اتجاه الهذيان الفصامي.
هوامش :
[1] D.GUYONNET et G.Texier Les Paranos , mieux les comprendre,Payot, 2006
[2] H. LÔo et J.-P. Olié,Cas cliniques en psychiatrie, Flammarions, 1992.
[3] S. de Mijolla-Mellor,La Paranoia, PUF,coll « Que sais-je ? »,2007
DSM-IV معطى إحصائي يشير إلى أن هناك في المجتمع ما بين 0,5÷ و 2,5 ÷من الشخصيات المصابة بمرض البارانويا.
نسبة مرضى البارانويا الهذيانيين هو أقل بكثير 0,04 ÷ حسب DSM-III ويظهر هذا الهذيان في المراحل الأخيرة من العمر (في سن الأربعين ) ، توزع المرض فيما بين الجنسين يختلف تبعا للأنماط المندرجة في إطار مرض البارانويا : فهذيان الاضطهاد نجده لدى الذكور أساسا ، أما الهوس الجنسي فيصيب الإناث أساسا.
هل يشكل المرضى بالبارانويا خطرا على الناس ؟ .. نعم ، يمكن أن يكونوا كذلك ، وقد قدرت دراسة أجريت على المرضى العقليين بوحدة الأمراض الصعبة UMD بكاديلاك أن ثلث الأفعال العنيفة المرتكبة من قبل المرضى العقليين كانت صادرة عن أولئك المصابين بالبارانويا .
ومع ذلك ، وحسب بحث نشر في الدراسة المذكورة أعلاه فإن ” 27,5 ÷ من جرائم القتل المرتكبة من طرف المرضى العقليين كانت متوقعة وأن 65 ÷ منها كان يمكن تحاشيه” بفعل علاجات نوعية ودراسة جادة لمسألة الخطورة.إن مرضى البارانويا الهذيانيين يعودون في الغالب لارتكاب نفس الجرائم ، وهم بعد ذلك لا يندمون مطلقا : فالضحية كانت تستحق ذلك بالفعل …
علاج المرض
هل يمكن معالجة المريض بالبارانويا؟ وهل يطلب المريض بنفسه العلاج ؟.. فذاك ما يفعله إلا ناذرا . ومع ذلك ، وفي حالات اضطراب الشخصية يحدث أن يستشير المريض طبيبا نفسيا ، وذلك لأنه يعاني ويتألم جراء مرضه ، أو لأن المحيطين به يلحون عليه في استشارة الطكبيب ، أو لأنه تنبه إلى إمكان فقدان مكانه أو وظيفته. الحالات الأخرى هي حالات المرضى الذين يتم علاجهم قسرا بعد قيامهم بأعمال عنف.
كيف يتم العلاج ؟..
ينطلق العلاج بمهدئ للأعصاب Neuroleptique، وعندما يختفي الهذيان ، يمكن توجيه المريض نحو علاج نفسي ( علاج سلوكي وإدراكي أكثر منه علاجا قائما على التحليل النفسي).
إن المعالج يحاول إفهام المريض وجهات نظر الآخرين ، لكنه إن أسرع في الأمر فإنه إما سيتحول في نظر مريضه  إلى مضطهد آخر ينضاف إلى زمرة مضطهديه ، وإما أن المريض سينهار ويتبرأ من كل القيم ، ومن ثمة فالعلاج يعرف صعوبات جمة ، لكنه يمكن أن ينجح. C.B
*****************************

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهلا بك وتشرفنا بزيارتك وتعليقك الكريم
سنقوم بالرد على سؤالك فى خلال وقت قصير ان شاء الله
ويمكنك التواصل معنا على رقم الواتس
00966558187343
او زيارة صفحتنا على الفيس بوك https://www.facebook.com/LouaiHassan.HR
وترك تعليقك فى الخاص وسنقوم بمساعدتك فورا
مع اجمل التحيات والامنيات بحياة سعيدة مباركة

مشاركة مميزة

تجربة الفئران

  هو إيه ممكن يحصل لو جبنا شوية فئران وحطيناهم في مكان يشبه الجنة، ويكون متوفر فيه كل ما لذ وطاب للفئران ..؟! بمعني إن ميكنش لهم أي أعداء من...

الأكثر مشاهدة