يعتقد البعض أن ظهوره وهو مشغول على الدوام في العمل ميزة تحسب لصالحه
ربما تشعر عندما تقول إنك مشغول بأن هذا يُعد وسام شرف على صدرك. لكن رئيسك وزملاءك يفسرون ذلك على نحو مغاير تماما.
ثمة تعبيرات مجازية عديدة يمكن أن يستخدمها المرء للتعبير عن انشغاله الشديد، لكن من المرجح أن تكون إجابته عن السؤال: "كيف تمضي معك الأمور؟" هي - ببساطة - "أنا مشغول"، أو عبارات أخرى تحمل نفس المعنى.
ومن الشائع للغاية أن يعبر أحدنا عن ذلك، على نحو صريح أو ضمني، بأن يتفقد مثلا هاتفه، أو حاسبه المحمول، خلال اجتماعٍ ما، أو أن ينهمك في أداء العديد من المهام في وقت واحد دون أن يبدي اهتمامه الكامل لأي منها. ومن كثرة شيوع التعبير عن الانشغال بهذه الطريقة، بات ذلك يبدو غير مؤذ للكثيرين، لكن هل هو كذلك حقا؟
وربما يبدو الاستعراض السريع لأسباب انشغالك مدعاة للفخر. لكن الحقيقة تتمثل في أن الناس لن يشعروا بالإعجاب عندما يسمعون ذلك. والأسوأ - بحسب الخبراء - أن الانطباع الذي سيأخذونه عنك في واقع الأمر قد يقوض حياتك المهنية، وعلاقاتك مع من حولك.
ويعود ذلك جزئيا إلى أنك لست الوحيد الذي يشعر بأنه يُرهق نفسه في العمل أكثر من اللازم، فقد أظهرت دراسة أُجريت أواخر عام 2014 ومطلع عام 2015، وشملت 9,700 شخصا يعملون بدوام كامل في ثماني دول؛ أن نحو نصف المديرين الذين شملتهم الدراسة قالوا إن ساعات عملهم زادت بشكل كبير خلال السنوات الخمس الماضية.
كما قال ثلث العاملين إن تحقيقهم التوازن بين متطلبات العمل وشؤون الحياة الخاصة يصبح أكثر صعوبة شيئا فشيئا.
واعتبرت دراسة أجرتها مؤسسة "إي آي" للخدمات المهنية والاستشارات المالية أن الأسباب التي تقف وراء تزايد حجم العمل الواقع على كاهل العاملين في الوقت الحالي تتمثل في تفاقم مشكلة عدم الاستقرار والأمان الوظيفي، والعمل عبر مناطق زمنية مختلفة؛ كأن يكون المقر الرئيسي للشركة في الولايات المتحدة - مثلا - بينما يعمل المرء في فرعها في الهند، بالإضافة إلى كوننا صرنا مرتبطين ومتصلين طوال الوقت بالأجهزة والوسائط الرقمية.
لستَ مشغولا جدا كما تظن
لم نصبح مشغولين من تلقاء أنفسنا، أو لأننا أصبحنا فقط مثقلين بالأجهزة الالكترونية والتطبيقات، والبقاء مرتبطين بها طيلة الوقت، ومتصلين بشبكة الإنترنت باستمرار.
وفي هذا الصدد، يقول إد بالدوين، وهو استشاري وخبير استراتيجي في مجال الموارد البشرية من مدينة دنفر بولاية كولورادو الأمريكية، إنه عمل في العديد من المؤسسات والشركات التي اعتُبِر الانشغال فيها أمرا يحظى بالتبجيل والاحترام.
مؤشرٌ على ثرائه ونجاحه.
لكن العكس الآن أصبح صحيحا، ففي سوق العمل المنظم، الذي يتعقب فيه المسؤولون عن توظيف الكفاءات في مختلف المجالات المهنية أفضل المرشحين لشغل الوظائف الشاغرة، يُنظر إلى الأشخاص المشغولين على أنهم يحوزون مهارات ومميزات منشودة ومطلوبة.
وتقول بيلَتسا: "إننا نوصل إلى العالم فكرة مفادها أن رأس مالنا البشري نادرٌ من نوعه حقا".
من جهة أخرى، تزخر وسائل التواصل الاجتماعي بمضامين يبثها المشاهير يُبدون فيها تواضعا شكليا، من خلال إظهار أنهم منهمكون طوال الوقت في أنشطة شتى، وأنه ليس لديهم أي وقت للاستمتاع بحياتهم الخاصة.
سي"، إننا نرغب أيضا في أن نشعر بأن الآخرين يسمعوننا "كما أن ثمة إقرارا قابعا في مكان ما في أعماق نفوسنا؛ مفاده بأننا نخذل أنفسنا أو أسرنا، عبر هذا الانشغال الذي لا ينتهي. وذلك أمر ليس منتجا أو مفيدا".
مسألة تفسير
ومن هذا المنطلق، فإذا كانت عبارة مثل "أنا مشغول" تُخلّف مثل هذا الأثر السيء؛ فما الذي يمكننا استخدامه إذا عندما نكون مشغولين ومضغوطين في العمل بحق، ونريد توضيح ذلك؟
في هذا الصدد، يمكن الاستفادة من نصائح حكيمة تُسديها لنا لورا سيمز، وهي خبيرة في شؤون السلامة والمخاطر، تعمل في مدينة ديترويت بولاية ميشيغان الأمريكية.
في البداية، تقول سيمز إنها تنزعج بحق عندما تسمع كلمة "مشغول/مشغولة"، بل إنها تعتبر هذه المفردة "عديمة المعنى" من الأساس.
ولذا تشير إلى أنها تفضل أن يقول المرء لمن يخاطبه بشأن أداء مهمة ما وهو غارق بالفعل في أخرى غيرها، من كثرة انشغاله، إنه منهمك في التعامل مثلا مع طلب مهم للغاية، وله قيمة كبيرة في الوقت الراهن، "وسيسعدني أن أتفرغ لطلبك في الرابعة مساء".
وتمضي سيمز قائلة: "كلمة 'مشغول' تعني أنك ترفض الشخص الآخر أمامك (الذي يطلب منك إنجاز عمل ما)، ولا تعطيه الفرصة للدخول من الأساس إلى قائمة أولوياتك".
رغم ذلك، يتعين على كل منّا إتمام العديد من المهام خلال يوم العمل، وغالبا ما يتم ذلك تحت أنظار رؤسائنا.
ولهذا، يتعلق الأمر هنا بتحديد الأولويات على نحوٍ واضحٍ، وبالتواصل مع الآخرين دون لبس أو غموض. لكن ما هي الطريقة الملائمة التي يمكن لك استخدامها لكي توضح للآخرين أنه ليس بمقدورك القيام بكل شيء وتلبية مطالب الجميع في وقت واحد؟
تقترح سيمز هنا أن يبادر المرء بسؤال من يخاطبه بشأن القيام بعمل ما قائلا: "هل تفضل أن أنهي ما أقوم به الآن أولا، أو أن أساعدك بشأن ما تطلبه مني؟"
وبهذه الطريقة تلقي بالكرة في ملعب من يريد إضافة عبء جديد على كاهلك، لتجعله المسؤول عن تحديد المهمة التي ينبغي منحها الأولوية الأولى. وفي غالبية الأحيان، سيتركك هذا الشخص لتنهي ما تقوم به من عمل، ثم تأخذ بعد ذلك راحة قصيرة تتحدثان خلالها عن المهمة الأخرى.
ولهذا، يجدر بك في المرة المقبلة التي يسألك فيها أحدهم حول "كيف تجري الأمور معك؟" أن تتوقف للحظة، لئلا تسارع إلى اللجوء إلى الإجابة التقليدية التي تذكر فيها أنك "مشغول".
وبدلا من ذلك، ينبغي عليك - كما يقول كراب - أن تغتنم الفرصة للحديث عن أمرٍ ما مثير للاهتمام.
وهنا يقترح كراب عليك أن تتسم بالابتكار في هذا الشأن، وأن "تتحدث عن شيء لك به صلة، أو تشعر بالحماسة إزاءه".
ويخلص كراب للقول: "هناك أمرٌ واحدٌ مؤكد، هو أن إسهابك في الحديث عن مدى انشغالك، لن يفيد حياتك المهنية، ولن يضفي السعادة" لا عليك، ولا على من تتحدث معه.
المملكة, جدة