مقدمة في الميتافيزيقا
غالبًا ما يبدأ أي كتاب في الجيولوجيا أو في قانون الضرائب أو في نظريّة الموسيقى بمقاربة ما عن ما هي الجيولوجيا أو ما هو قانون الضرائب أو ما هي نظرية الموسيقى. ربما يُتوقّع من تمهيد لأي موضوع تقريبًا أن يبدأ بمقاربة عامة عن ذلك الموضوع، وشيء شبيه بتعريف. بالتالي، فمقدمة لعلم الأحياء قد تبدأ بكلمات من قبيل : “علم الأحياء هو الدراسة العلمية للأعضاء الحيّة”، وكتاب في علم الاجتماع قد يبدأ بإخبار قرّاءه أن علم الاجتماع هو دراسة كيفية حياة الناس مع بعضهم البعض. هذا هو المعتاد، أوّل ما يريد طالب لموضوع ما معرفته هو ماهية هذا الموضوع. الحاجة إلى تعريف حاجة مُلحّة خصوصًا في حالة الميتافيزيقا.
يمتلك أغلب الناس على الأقل فكرة عامة عن ما تعنيه “الجيولوجيا (علم الأرض)” و”قانون الضرائب” و”نظرية الموسيقى”، حتى لو كان من الصعب تقديم تعريفات على طريقة المعاجم لهذه المصطلحات. لكن يكاد يكون من الثابت [لو] أن شخصًا لم يدرس الميتافيزيقا – بشكل رسمي، في مقرر دراسي في الجامعة – لن تكون لديه فكرة عن ما تعنيه كلمة “ميتافيزيقا”. بالتالي، يبدو من الواضح أن مقدمة عن الميتافيزيقا يجب أن تبدأ بتعريف ما. للأسف، من المُستبعد أن يوضّح تعريف الميتافيزيقا أي شيء(1). أفضل طريقة لشرح طبيعة الميتافيزيقا يكون عبر مثال. ستحصل على فكرة جيّدة إلى حدٍ ما عن ما هي الميتافيزيقا عندما تنتهي من قراءة هذا الكتاب. لكن يصعب أن تُحل المشكلة بهكذا حل. أي شخص يفتح كتابًا له الحق في ما يشبه المقاربة التمهيدية عن ما يدور الكتاب حوله. هذا الفصل محاولة لهذا النوع من المقاربات.
عندما قُدِّمت لي الميتافيزيقا أثناء دراستي الجامعية، قُدّم لي التعريف التالي : الميتافيزيقا هي دراسة الحقيقة النهائية. يبدو لي حتى الآن أن هذا هو أفضل تعريف رأيته للميتافيزيقا. مع ذلك، فهو ليس تعريفًا مفيدًا أو يحمل أيّ معلومات. قد يسأل أحدهم : ما معنى “حقيقة” وما معنى معيار “النهائية”؟ مقاربتي التمهيدية للميتافيزيقا تأخذ شكل محاولة الإجابة على هذه الأسئلة.
نعلم بأنه يمكن أن تكون المظاهر مضللة. بمعنى، نعلم أن الطريقة التي تبدو ( أو تُسمع أو تُشعر أو تُشم أو تُذاق ) عليها الأشياء قد تضللنا عن ما تبدو عليه هذه الأشياء فعلًا. نعلم أن جان قد تبدو بصحة وعافية لكن مع ذلك هي تحتضر. نعلم بأن توم قد يبدو أمينًا، ومع هذا هو شخص يُعتمد عليه. نعلم أنه إذا سحب شخص يده للتو من ماء ساخنٍ جدًا، قد يكون ملمس الأشياء الدافئة باردًا بالنسبة له. لضرب مثال أهم، نعلم بأن أكثر الأشخاص علمًا في العصر الوسيط كانوا يعتقدون بأن الأرض هي مركز الكون، وأن الشمس والقمر والنجوم والكواكب كانت مُثبّتة في أفلاك خفيّة تدور حول الأرض الثابتة.
دعونا نُركز على المثال الأخير. لماذا اعتقد القروسطيون ( من عاش في القرون الوسطى ) بهذا؟ حسنًا؛ لأن هذه هي الكيفية التي كانت تُشعر بها الأشياء ( الأرض تحت أقدامنا تبدو بأنها لا تتحرك )، وهذه هي الكيفية التي تُرى بها الأشياء. نعلم اليوم أن النظام الفلكي الذي قَبله القروسطيون – والذي قبله الإغريق وورثه من عاش في العصر الوسيط عنهم – خاطئ. نعلم بأن القروسطيين- والإغريق من قبلهم- خُدعوا بالمظاهر. نعلم بأنه حتى وإن كانت الأرض الصلبة تحت أقدامنا تبدو ثابتة، هي في الحقيقة تدور حول محورها مرة كل 24 ساعة. ( بالتأكيد، نعلم أيضًا أنها تدور حول الشمس أيضًا، لكن لنركز على دورانها حول محورها فقط ) تخيل الآن أنك راكب على لعبة الخيل الخشبية الدوارة وتضع عصبة على عينيك. هل يمكنك أن تعلم هل لعبة الخيل الخشبية الدوارة تدور أم ثابتة؟ بالتأكيد يمكنك ذلك : ركاب لعبة الخيل الخشبية الدوارة المتحركة سيشعرون باهتزاز، وبهبّات الهواء، و-في بعض الحالات- شيء يصعب وصفه شبيه بالـ”جذب” ( هذا الأخير سيكون واضحًا لشخص يسير إلى أو من مركز لعبة الخيل الخشبية الدوارة ). هذه المؤثرات تقدّم “الإشارات”، غير الإشارات البصرية، التي نوظفها في حياتنا اليومية لنعلم إذا ما كنّا نتحرك بحركة دائرية أم لا. القروسطيون واليونانيون القدامى افترضوا هذا لأنهم لم يشعروا بهذه الإشارات عندما كانوا واقفين أو عندما كانوا يسيرون على سطح الأرض، بالتالي الأرض لم تكن تدور. يمكننا اليوم أن نرى خطأهم. لا يشعر “ركّاب” الأرض باهتزاز؛ لأن الأرض تدور من غير قيد في ما هو خلاء أساسًا. عندما يتحركون على سطح الأرض لا يشعرون بالـ”جذب” المذكور أعلاه؛ لأن هذا التأثير – مع أنه حاضر – ليس كبيرًا بما فيه الكافية لكي تلتقطه حواس الإنسان المجرّدة (من غير مساعدة الآلات). ولا يشعرون بهبّات الهواء المندفعة؛ لأن الهواء يُحمل مع سطح الأرض المتحرك، وبالتالي هو [الهواء] لا يتحرك بالنسبة لهم.
يُبيّن هذا المثال أنه يُمكن أحيانًا الذهاب “ما وراء” المظاهر التي يُقدمها العالم لنا واكتشاف حقيقة الأشياء : اكتشفنا أن الأرض تدور حقًا، بغض النظر عن حقيقة أنها ظاهريًا ثابتة.
لنمعن النظر قليلًا في الكلمتين : “حقًا” (really) و”ظاهريًا” (apparently). ليس لهما معنى كبير بمعزل عن بعضهما البعض. عندما نقول بأن شيئًا ما صحيح حقًا، نُضَمِّن بأن شيئًا آخر صحيح ظاهريًا. يُصعب تصور أحد ما يقول بأن اثنين زائد اثنين يساوي أربعة حقًا، أو أن إبراهام لينكون كان رجلًا حقًا. السبب أنه في كلتا الحالتين لم يوجد مقابل “ظاهري”. اثنان زائد اثنين لا يساوي ظاهريًا ثلاثة أو خمسة، ولينكون لم يكن ظاهريًا امرأة أو قط أو من المريخ.
الاسمان “مظاهر” و”حقيقة” مشتقان من “ظاهريًا” و “حقًا” ويتعلقان ببعضهما البعض بنفس الطريقة. نتحدث عن حقيقة عندما يكون هناك مظهر مضلل يجب علينا (To be) “الذهاب ما وراءه” أو “نرى من خلاله”: حقيقة الأمر هو (بغض النظر عن المظاهر) أن الأرض تدور حول محورها، وفي الحقيقة (وبغض النظر عن المظاهر) السماوات لا تدور حول الأرض. لكن هذا قد يُشير أنه عندما نتمكن من الذهاب وراء مظهر مضلل، ما سنعثر عليه هناك شيء يمكننا تسميته “حقيقة” من دون الحاجة إلى إثبات. مع هذا، في واقع الأمر، ما نعثر عليه وراء المظهر هو في الغالب شيء يمكن تسميته “حقيقة” فقط بالنسبة لذلك المظهر. ما نعثر عليه خلف المظهر غالبًا ما يكون مظهرًا آخر يُخفي حقيقة أعمق. على سبيل المثال، في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، كان كتّاب أدبيات العلوم المبسّطة يحبّون أن يدهشوا قراءهم بإخبارهم أن العلم اكتشف أن ما اعتقد الناس أنها أشياء صلبة ( أشياء مثل الطاولات والكراسي ) هي في الحقيقة “أغلبها مساحة فارغة”. وبالتأكيد كان هناك معنى ما تكون فيه هذه المقولة صحيحة. مع هذا، في نفس الوقت الذي كان كتّاب أدبيات العلوم المبسّطة يذيعون هذا الكشف، بدأ الفيزيائيون اكتشاف أن ما يُطلق عليه “مساحة فارغة” كان في الحقيقة أبعد ما يكون عن الفراغ. بعبارة أخرى، لم يمضي الكثير من الوقت عندما بدأ الناس يتقبلون فكرة أن ما نُسميه عادةً أشياء صلبة يحتوي ما نُسميه عادة مساحة فارغة حتى تم اكتشاف أن ما نسميه عادة مساحة فارغة هو في الحقيقة مكتظ “بالسكان”. هذه الحلقة القصيرة في تاريخ الأفكار تُشير إلى سؤال عام : هل يُمكن أن الحقيقة خلف كل مظهر هي نفسها ليست إلا مظهرا ثانيًا؟ إذا كانت الإجابة على هذا السؤال هي لا؛ إذن هناك حقيقة ليست مظهرًا أيضًا. هذه الحقيقة الأخيرة أو “النهائية” هي موضوع الميتافيزيقا.
إذا لم يكن هناك حقيقة نهائية؛ إذن الميتافيزيقا هي دراسة من غير موضوع. ( لن تكون [الميتافيزيقا] الوحيدة. على سبيل المثال التنجيم هو دراسة من غير موضوع، بما أن التأثيرات السماوية على حيواتنا التي يدّعي المنجمون دراستها ليست موجودة أصلًا ). مع هذا، من الصعب أن نرى كيف أنه لا وجود لحقيقة نهائية. افترضي أن صديقتكِ جان تحاول أن تُخبركِ بأنه لا وجود لحقيقة نهائية، تقول : ” ليس هناك إلا مظاهر”، “عندما تظنين أنكِ عثرتي على حقيقة، ما عثرتي عليه ليس إلا مظهرًا آخر. أوه، قد يكون مظهرًا أعمق، أو مظهرا أقل تضليلًا من الذي قبله، لكن سيظل مظهرًا. وهذا لأنه لا وجود لحقيقة نهائية تنتظر أن يُعثر عليها.”
لنمعن النظر جيدًا في مقولة جان في أنه لا وجود لحقيقة نهائية. هل هي شيء حقيقي أم شيء ظاهري؟ يبدو من الواضح أن جان تحاول أن تخبرنا كيف تبدو حقيقة الأشياء. ويا للمفارقة، من خلال إخبارنا أنه لا وجود لحقيقة نهائية، تخبرنا جان أن الحقيقة النهائية تتكون من سلسلة لا متناهية من المظاهر. بعبارة أخرى، مقولة أنه لا وجود لحقيقة نهائية -كما يمكننا القول- تدحض نفسها بنفسها؛ لأنها مقولة حول الحقيقة النهائية، ولو أنها صحيحة؛ فهي مقولة صحيحة حول الحقيقة النهائية. بالتالي، لا يبدو من الممكن تجنّب نتيجة أنها حقيقة نهائية وأن الميتافيزيقا لها موضوع. لكن علينا أن نؤكد أن لا شيء مما قلناه يميل لأن يظهر أن الميتافيزيقا عندها الكثير لتقوله : ربما لا يوجد شيء يُمكن اكتشافه عن الحقيقة النهائية إلا حقيقة أنه يوجد حقيقة نهائية.
إذن الحقيقة النهائية تحاول أن تذهب وراء المظاهر وأن تقول الحقيقة النهائية حول الأشياء. سيبدو من المريح أن نحصل على اسم جامع للـ”أشياء” لكل شيء. لنُسمّي “كل شيء” إجمالًا “العالم”. بما أن “العالم” لكل الشيء؛ فالعالم يتضمن حتى الله ( لو كان هناك إله). إذن نحن نستعمل الكلمة بمعنى أوسع من المعنى الذي يستعمله المؤمن الديني الذي يقول : “الله خلق العالم”. إذا كان علينا أن نقرر لاحقًا أن هناك إله خلق كل شيء عداه؛ سيكون من السهل العثور على كلمة أخرى لاستخدامها كاسم جامع لكل شيء عدا الله : “الكون” مثلًا.
تحاول الميتافيزيقا أن تقول الحقيقة النهائية عن العالم، عن كل شيء. لكن ما الذي نُريد أن نعرفه عن العالم؟ ما هي الأسئلة والإجابات التي ستكون الحقيقة النهائية عن الأشياء؟ اقترح بأنها ثلاثة أسئلة :
1 – ما هي أكثر خصائص العالم عمومية، وما هي الأشياء التي تحتويه؟ ما الذي يبدو عليه العالم؟
2 – لماذا يُوجد العالم، وأكثر تحديدًا، لماذا هناك عالم يمتلك هذه الصفات ويحتوي على المحتوى الموصوف في الإجابة على السؤال الأول؟
3 – ما هو موقعنا في العالم؟ كيف نتكيف نحن البشر فيه؟
أحد طُرق إدراك المقصود بسؤال ما هو البحث عن إجابات محتملة. سأبسط مجموعتين من الإجابات على هذه الأسئلة، على أمل أنهما سيجعلان الأسئلة أوضح من خلال إظهار ما أنواع العبارات التي تُعتبر إجابات عليهم. المجموعة الأولى من الإجابات -التي كانت مقبولة على نطاق واسع في القرون الوسطى- هي هذه :
1 – العالم يتكون من الله وكل ما خلق. الله لا متناهٍ ( بمعنى أنه غير محدود العلم، القدرة، والرحمة) وروح (بمعنى أنه ليس ماديًا). خلق كلًا من الأرواح والأشياء المادية، لكن كل الأشياء التي خلقها محدودة ومتناهية. الله موجود منذ الأزل، وفي لحظة مُعينة في الماضي خلق كل شيء آخر لأول مرة، قبل هذا، لم يوجد أي شيء عدا الله. سيوجد الله دائمًا، ودائمًا ستوجد أشياء سيخلقها.
2- لابد أن يوجد الله، مثلما أن اثنين زائد اثنين يساوي أربعة. لكن لا يوجد أي شيء آخر يمتلك هذه الميزة، كل شيء عدا الله كان من الممكن أن لا يوجد. توجد كل الأشياء عدا الله لأن الله ( الذي يمتلك القدرة على فعل أي شيء ) تسبب بوجودهم من خلال إرادة حرة. كان يمكنه اختيار أن لا يخلق أي شيء، في هذه الحالة لن يوجد أي شيء عداه هو نفسه. عِلاوة على ذلك، لم يُخرج الله كل الأشياء الأخرى إلى الوجود فحسب، لكنه أيضًا يبقيها في الوجود في كل لحظة. لو أن الله لم يبقِ الشمس والقمر وكل شيء آخر في الوجود في كل لحظة؛ سيختفون من الوجود فورًا. الأشياء المخلوقة ليس لها القدرة على إبقاء نفسها في الوجود مثلما أن الحجارة وشذرات الحديد لها القدرة على إبقاء نفسها معلّقة في الهواء.
3- البشر خُلقوا من قِبل الله ليحبوه ويعبدوه إلى الأبد. إذن، كل واحد منهم ومنهن له/ـا هدف أو مهمة. بنفس المعنى الذي نقصده في قولنا أنه من الصحيح أن مهمة قلب جون هو ضخ الدم، من الصحيح عن جون أن مهمته هي حب وعبادة الله إلى الأبد. لكن، على خلاف القلب، الذي لا يملك خيارًا بشأن ضخ الدم من عدمه، للإنسان إرادة حرة وبإمكانه رفض الشيء الذي خُلق من أجله. ما نسميه تاريخ الإنسانية هو ليس أكثر من عواقب اختيار بعض البشر عدم القيام بما خُلقوا من أجله.
المجموعة الثانية من الإجابات – التي كانت مقبولة على نطاق واسع في القرن التاسع عشر – هي هذه :
العالم يتكون من مادة في وضع الحركة. لا شيء إلا المادة، التي تعمل طِبقًا إلى قوانين الفيزياء الصارمة والمطردة. كل شيء خُلق بالكامل من المادة، وكل ناحية من نواحي تصرفه راجع إلى عمل هذه القوانين.
المادة موجودة منذ الأزل ( ودائمًا ما وُجدت بنفس الكمية بالضبط )، المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم. لهذا السبب، لا وجود لـ”لماذا” بالنسبة إلى وجود العالم. لأن العالم ماديٌ بالكامل، ولأن المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم، العالم أزلي (قديم) : كان موجودًا دائمًا. السؤال “لماذا وُجد [العالم]؟” سؤال يُمكن أن يُسأل فقط عن شيء له بداية. تكون معلومة مطلوبة [عندما نتحدث] حول ما الذي تسبب في خروج الشيء إلى الوجود. بما أن العالم أزلي السؤال “لماذا العالم موجود؟” لا معنى له.
البشر مُركبات مُعقدة من المادة. بما أن العالم أزلي، وجود مُركبات مُعقدة من المادة ليس مفاجئًا، خلال مدة زمانية لا متناهية، كل المركبات المُعقدة من المادة الممكنة ستخرج إلى وجود. البشر ليسوا إلا واحدًا من هذه الأشياء التي تحدث من حين إلى آخر. لا هدف لهم ولهن. وجودهمـ/ن ومميزاتهمـ/ن عرضي مثلما أن وجود وشكل بقعة من الحليب المسكوب عرضي. حياتهمـ/ن -حياتنا- لا معنى لها (وراء معنى ذاتي محض نختار إيجاده فيها) وينتهون في النهاية بموت جسدي، بما أنه لا وجود للروح. الشيء الوحيد الذي يُقال عن مكانة البشر في العالم هو أنهمـ/ن جزء مؤقت من العالم.
هذان المجموعتان من الإجابات هما بالفعل متضادتان بشكل جذري. على الرغم من هذا، يمتلكان العديد من الخصائص المشتركة. على سبيل المثال، كل واحد منهما يفترض أن الأشياء المفردة ( أشياء مثلي ومثلك وقمة جبل إفرست ) حقيقية. لكن، مجموعات أخرى من الإجابات سترفض هذا الافتراض، وتزعم أن كل فردية هي محض مظهر، وفي الحقيقة لا وجود لأشياء مستقلة على الإطلاق. ( شيء مثل هذا قد يقوله أتباع العديد من الديانات الشرقية مثل الهندوسية والبوذية ). كلتا مجموعتي الإجابات تفترض مُسبقًا حقيقة الزمن، لكن هناك أولئك الذين يقولون أن الفصل بين الأحداث في الزمن ( الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية الفاصل الزمني بينهما هو 20 عامًا )، “اتجاه” أو “توجّه ” الزمن ( التفريق بين الماضي والحاضر والمستقبل )، وما يظهر أنه تحرك أو “مرور” الزمن، كلها محض مظاهر. وهناك أولئك الذين يقولون شيئًا مشابهًا حول المكان : الـ”هنا” والـ”هناك” المتعارف عليها في التجربة العادية ليست أكثر من مظهر. كلتا المجموعتين من الإجابات تفترض حقيقة العالم المادي، عالم من أشياء لا ذهنية، لكن وُجد فلاسفة اعتقدوا بعدم وجود شيء في الخارج. وأخيرًا، كلتا المجموعتين من الإجابات – فقط لكونهما مجموعتين من الإجابات – يفترضان مُسبقًا أن أسئلتنا الثلاثة يُمكن أن يُجاب عليها. لكن، كما سنرى لاحقًا في هذا الفصل، هناك من يرى أن “أسئلتنا” الثلاثة ليست أسئلة أساسًا، بل مجرد صف من الكلمات لها مظهر زائف للأسئلة ( وبالطبع، إذا لم تكن أسئلة؛ فليس لها إجابات ).
لو كنت محقًا في افتراض أن الإجابات على أسئلتنا الثلاثة ستكون الحقيقة النهائية عن العالم، يمكننا [إذن] تعريف الميتافيزيقا بوصفها الدراسة التي تُقدم إجابات على هذه الأسئلة الثلاثة وتحاول أن تختار بين مجموعات الإجابات المتنافسة حولهم. (يظهر هذا التعريف في بنية الكتاب الحالي : كل جزء من أجزاء الكتاب الثلاثة هو بحث في واحد من هذه الأسئلة الثلاثة.)
شيء آخر يساعدنا في فهم ما المقصود بالميتافيزيقا نراه في تمييز الميتافيزيقا عن أشياء أخرى يُمكن أن تشتبه بها، أولًا، يجب أن تُميّز الميتافيزيقا عن أكثر العلوم عمومية و شمولًا لكل شيء في العلوم الفيزيائية : علم الكونيات (Cosmology) وفيزياء الجسيمات الأوليّة (physics of elementary particles). )علم الكونيات جزء من علم الفلك يدرس الكون المادي أو “الكوزموس” ككل. تدرس فيزياء الجسيمات الأوليّة المكونات الأساسية للكون المادي والقوانين التي تعمل بها.) خلص مجالا البحث هذان لأن يكونا متصلين ببعضهما البعض، وقدّما منذ الستينيات نتائج لها أهمية بالغة للميتافيزيقا. لنعطي اسم “علم الكونيات المادي” (physical cosmology) لهذه البحوث العلمية التي تتضمن كلا من علم الكونيات وفيزياء الجسيمات الأوليّة المتعالقين. هذا مثال للأهمية الميتافيزيقية لعلم الكونيات المادي. يبدو أن إظهار أن الكون المادي كان له بداية في الزمن ( قبل حوالي 13.7 بليون سنة )، أو على الأقل، ليس له ماضٍ يمتد إلى ما لا نهاية كان فيه كما هو الآن. لو كان هذا صحيحًا، كل تأمل ميتافيزيقي يفترض مُسبقًا ماضٍ يمتد إلى ما لا نهاية حيث كانت فيه كل عناصر الكون مثلما هي في الكون في الزمن الحالي تُعيد تشكيل نفسها إلى ما لا نهاية – مجموعة الإجابة الثانية على أسئلتنا الثلاثة تُقدم مثالًا مهمًا لتأمّل يفترض هذا الافتراض المُسبق – غير صحيحة. وهذا لوحده كافٍ في توضيح أهمية علم الكونيات المادي للميتافيزيقا.
لكن حتى لو كان لعلم الكونيات المادي أهمية بالغة للميتافيزيقا، هو لا يُقدّم إجابات -ولا يمكنه ذلك- لكل الأسئلة التي تطرحها الميتافيزيقا. مثلًا، لا يمكنه الإجابة على سؤال “لماذا العالم موجود؟” ( أو على الأقل، يبدو هذا واضحًا بالنسبة لي. لكن هناك العديد ممن يأمل أنه في يومٍ ما – ربما في يوم ليس ببعيد – سيجيب علم الكونيات المادي على هذا السؤال. في نظري هذا أمل خاطئ. سنرى هذا في الفصل السابع.) علِاوة على ذلك، علم الكونيات المادي لا يقول لنا إذا ما كان الكون المادي هو كل ما هناك ولا يمكنه ذلك، إذا ما كان في العالم شيء أكثر من الكون المادي. أحيانًا يؤكد العلماء أن العالم مُطابق للكون المادي. كما فعل عالم الفلك المشهور، كارل سيجان المتأخر، في كلماته الافتتاحية في مسلسله التليفزيوني الشهير الكون (Cosmos كوزموس)، لكن هذا الإقرار إقرار ميتافيزيقي، وليس إقرارًا علميًا. بالتأكيد من الممكن المجادلة أن العلم الحديث سيكون في مقدوره يومًا ما شرح كل الظواهر القابلة للملاحظة، وبالتالي على الشخص أن يعتقد أن العالم مطابق للعالم المادي، بما أنه يجب على الشخص أن لا يعتقد بشيء يتجاوز الأشياء التي يفترضها العلم الحديث خلال شرحه لها. لكن هذه الحجة – وأي حجة غيرها لها نفس النتيجة ستكون – حجة ميتافيزيقية وليست حجة علمية.
ثانيًا، يجب تمييز الميتافيزيقا عن اللاهوت المقدس أو الوحياني. اللاهوت هو، بالتعريف، علم أو دراسة الله. اللاهوت يتداخل جزئيًا مع الميتافيزيقا. ما هو مشترك بين اللاهوت والميتافيزيقا يُسمى عادة اللاهوت الفلسفي أو اللاهوت الطبيعي. الجزء المتبقي من اللاهوت هو ما يُسمى لاهوتًا مقدسًا أو وحيّي. طبقًا إلى هذه الأديان التي تعتبر الله وجودًا مريداً متداخلاً في التاريخ ( ما يُسمى الأديان الإبراهيمية : اليهودية، والمسيحية، والإسلام ). أوحى الله للبشر حقائق مُعينة مُهمة لا يمكنهم العثور عليها بأنفسهم. اللاهوت المقدس أو الوحياني هو الدراسة المنهجية للحقائق التي يُفترض أن الله أوحاها. العديد من هذه الحقائق التي يفترض أنها موحاة ميتافيزيقية، أو ميتافيزيقية جزئيًا في جوهرها. بمعنى، هي من النوع الصحيح، أو الذي يتضمن إجابات على سؤال أو أكثر من أسئلتنا الميتافيزيقية الثلاثة. مع هذا، تمامًا كما يجب تمييز الميتافيزيقا عن علم الكونيات المادي، يجب تمييز الميتافيزيقا عن اللاهوت الوحياني.
علم الكونيات المادي واللاهوت الوحياني لهما مناهجهما وتاريخهما الخاص، كل واحد منهما يختلف عن منهج وتاريخ الميتافيزيقا، على الرغم من أنه يُصعب عمليًا تمييز تواريخ الثلاثة عن بعضها البعض. كلا من علم الكونيات المادي واللاهوت الوحياني يصادقان على – بالإضافة إلى المصادقة على ( بطرق ودرجات متفاوتة ) عبارات ونظريات لا علاقة لها بحقل الميتافيزيقا – عبارات ونظريات لها نتائج ميتافيزيقية مهمة. لكن لا يعني هذا أن الميتافيزيقي(2) يمكنه الاستفادة نفس الاستفادة من علم الكونيات المادي واللاهوت الوحياني. فرقان مهمان بين العلم الكونيات المادي واللاهوت الوحياني يتضمن أن على الميتافيزيقي معاملة هذين المجالين بشكل مختلف.
أولًا، هناك معنى مباشر ووحيد لعلم الكونيات المادي، لكن كل دين من الأديان الإبراهيمية له لاهوته الوحياني الخاص ( بما أن لكل واحدٍ منهم رؤاه الخاصة حول محتوى وحي الله إلى البشر ). من المهم ملاحظة أن علمًا خاصًا للكون المادي ليس أمرًا لا مندوحة عنه. من السهل تصوّر عالمًا يكون فيه لكل دين ولكل أيديولوجيا سياسية علمه “الخاص”، يتضمن علم كونيات خاص به. أي أحد يشك فيما إذا كان هذا ممكنًا، عليه التفكّر في حقيقة أنه ليس منذ زمن بعيد، كانت نظريات علم الكونيات التي تتضمن أن الكون المادي كان له بداية في الزمن يتم ردعها في الاتحاد السوفياتي؛ لأن هذه الفكرة تناقض تعاليم الفلسفة السوفيتية الرسمية: المادية الجدلية. أو التفكّر في حقيقية أنه خلال حكم الرايخ الثالث كان يُسخر من نظرية النسبية العامة ( أداة لازمة لعلم الكونيات المادية ) وتُنبذ بوصفها “علم يهودي” : وليس فقط من قِبل القوميين الاشتراكيين البيروقراطيين، بل حتى من حاصلين على نوبل.
الفرق المهم الثاني بين علم الكونيات المادي واللاهوت الوحياني هو أنه بينما لا أحد عمليًا يعتبر علم الكونيات المادي علم زائف أو مستودع أوهام، هناك رأي واسع ومحترم يرى أنه لم يكن هناك أي وحي إلهي، وبالتالي علم اللاهوت الوحياني هو علم وهمي بالكامل. تتقوى هذه الرؤية بالتأكيد بحقيقة أن المؤمنين بالوحي الإلهي لا يجمعون على رأي واحد حول محتواه [أي الوحي]. لكن حتى لو كان هناك إجماع تام حول ذلك المحتوى ( بين أولئك الذين يؤمنون أن الوحي قد وقع )، سيبقى هناك بلا شك رأي واسع ومحترم يرى أن الوحي وهمي. من المهم تذكر أنه – في علاقة مع هذه الملاحظات – تمامًا مثل أولئك الذين يؤمنون بالوحي، هؤلاء الناس الذين يكوّنون بشكل جماعي ” رأيًا محترمًا” لا يجمعون على رأي واحد. ينتج من هذا أن الرأي المحترم يجب أن يكون خطًأ أحيانًا. بالفعل، الرأي المحترم قد يكون خطأ فتاكًا جدًا. رأي محترم كان يقول أن واجب أوروبا المقدس هو فرض نمط حضارتها على بقيّة العالم، ورأي محترم كان يقول أن كارل ماركس قد أنجز فهمًا علميًا للتاريخ، وأن سيغموند فرويد قد أنجز فهمًا علميًا للاوعي الإنسان.
مع ملاحظة هذه الشروط ، لا يزال صحيحاً في الواقع أن هناك علم كونيات مادي واحد ( وعدة لاهوتيات موحاة )، ويبقى من الصحيح أن رأيًا واسعًا ومحترمًا يعتبر أن أي اعتقاد بوحي هو وهمي بالكامل. بالتالي، يصعب التمسّك بقول أن الميتافيزيقي – حتى الميتافيزيقي الذي يقبل حقيقة الوحي الإلهي – يمكنه استخدام نفس استخدام علم الكونيات المادي واللاهوت الوحياني. اعتبر نفسي في هذا الكتاب حرًا في استخدام أي نظرية مقبولة على نطاق واسع في علم الكونيات. لكن، بغض النظر عن حقيقة أنني أؤمن بالوحي الإلهي وأؤمن بأن العديد من الأشياء التي أوحاها الله لها تطبيقات ميتافيزيقية مهمة، لا استدل بالوحي. السبب بسيط : من خلال استخدامي لعلم الكونيات المادي، أنا لا أحصر عدد قرائي بأي حال من الأحوال، ولو استدليت بما اعتقد انه وحي إلهي؛ فبلا أدنى شك ضيّقت نطاق قرائي إلى من يتفق معي حول محتوى الوحي الإلهي، وأنا لا أرغب في حصر نطاق قرائي.
إذن، يجب تمييز الميتافيزيقا عن علم الكونيات المادي واللاهوت الوحياني. لكن الميتافيزيقا جزء أو فرع من الحقل الأعم للفلسفة، ويجب تمييزها عن أجزاء أخرى من الفلسفة(3). مع هذا، أي تمييز بين الميتافيزيقا وأجزاء أخرى من الفلسفة سوف يكون مصطنع إلى حد ما؛ وذلك لأن كل جزء من الميتافيزيقا يطرح أسئلة ميتافيزيقية، وبالتالي، منفصل بالكامل عن الميتافيزيقا. لنلق النظر على مثال توضيحي. الفرع الفلسفي المُسمى أخلاق، أو الفلسفة الأخلاقية، هي بحث في طبيعة الخير والشر، والصواب والخطأ. أي شخص يُفكر في هذه المواضيع سيجد نفسه قريبًا قد طرح أسئلة ميتافيزيقية. انظر مثلًا في عبارة أن هيتلر كان رجلًا شريرًا. (عبارات مثل هذه تعتبر بالتأكيد جزء من موضوع بحث الأخلاق). العديد سيرى هذه العبارة – بمعنى مباشر – صحيحة. إذا كانت هذه العبارة صحيحة، يبدو أن الشخص الذي يعزو إلى هيتلر صفة أو سِمة تُسمى أن تكون شريرًا. لكن ما نوع هذه الصفة؟ من الواضح أنها ليست صفة جسدية لهيتلر مثل طوله أو وزنه. وإذا لم تكن صفة جسدية، وإذا كانت موجودة فعلًا، إذن يبدو أنه ينتج من هذا أن العالم يحتوي بمعنى من المعاني أشياء لا جسدية (مادية)، لأنه إذا كان هتلر شريرًا، وإذا كان الشر شيء لا مادي؛ إذن كيف يمكن أن العالم بكامله يتكون من مادة في وضعية الحركة؟
من أجل تيسير أمر الإحالات [إلى الفروع الفلسفية المختلفة]، سأسرد هنا أهم فروع الفلسفة غير الميتافيزيقا والأخلاق : الابستمولوجيا، أو نظرية المعرفة، التي تبحث في طبيعة ومجال وشروط المعرفة الإنسانية. المنطق يبحث في طبيعة التفكير الصحيح ومحاولة بسط القوانين التي تضمن صحة التفكير. الاستطيقا تبحث في طبيعة الأعمال الفنية، تكوينهم من قِبل الفنانـ/ـة، وطبيعة فعل النظر إليهم، أو الاستماع لهم، أو قراءتهم. بالإضافة إلى فروع الفلسفة هذه التي تحمل اسمًا تراثيًا من كلمة واحدة ( سيلاحظ القارئ أنها كلّها من أصل إغريقي )، يوجد هناك لائحة طويلة من “فلسفة الكذا” : التي هي فروع فلسفية تتعامل مع أسئلة عامة ومحيّرة جدًا (أي أسئلة فلسفية) حول طبيعة الإنسان والفروع المختلفة للمعرفة الإنسانية، والأنشطة التي هي إنسانية على نحو خاص ومميز. أسمائها تشرح نفسها بنفسها إلى حد بعيد : فلسفة العقل، الفلسفة السياسية، فلسفة العلم، فلسفة الرياضيات، فلسفة اللغة، فلسفة الدين، فلسفة التاريخ، فلسفة القانون. لا يمكن وجود لائحة نهاية من “فلسفة الكذا”؛ لأنه لا توجد لائحة نهائية ممكنة للمواضيع المهمة التي يمكن أن تقدم أسئلة عامة ومحيّرة جدًا. ما يجب على المبتدئ في الميتافيزيقا أن يبقيه في ذهنه هو أنه على الرغم من أن الميتافيزيقا تمتاز عن كل بقية فروع الفلسفة، كل واحد منهم -مثل الأخلاق- يقدّم أسئلة ميتافيزيقية مهمة؛ وبالتالي لا يمكن اعتبارها منفصلة تمامًا عن الميتافيزيقا.
ربما بذلنا كل ما في وسعنا في مقدمة تمهيدية لما المقصود بـ”ميتافيزيقا”. يُمكن إحراز فهم أعمق للميتافيزيقا فقط من خلال “فعل” بعض الميتافيزيقا فعلًا، وهذه مُهمة الفصول المتبقية من هذا الكتاب. لكن قبل دراسة شيء من الميتافيزيقا علينا أن نكون واعين بمنحى مهم يختلف فيه كتاب عن الميتافيزيقا عن كتاب في الجيولوجيا، أو قانون الضرائب، أو نظرية الموسيقى. تحتوي هذه الكتب الثلاثة – وفي غيرها من المواضيع – على معلومات. هناك أشياء يمكنك أن تتعلمها منهم : أن القارات في حالة حركة، أو أنه يمكن فرض ضرائب على الشركات، أو أن التآلف السباعي الناقص يتكون من تآلف ثلاثي ناقص بالإضافة إلى مسافة التآلف السابع الناقص فوق الجذر. يُمكن أن يطلب منك إجراء اختبارات عن محتوى هذه الكتب، وللأسف، إجاباتك قد تكون خاطئة. لو كتبت في اختبارك لقانون الضرائب أنه يُمكن فرض ضرائب على الأفراد فقط، لن يُشيد أحد بأصالتك واستقلالك الفكري. سيتم تخطئة إجابتك لا أكثر. الميتافيزيقا ليست كذلك. لا توجد معلومات في الميتافيزيقا، ولا توجد حقائق ثابتة تُتعلم(4). وأكثر تحديدًا، لا توجد معلومات وحقائق تُتعلم عدا معلومات وحقائق حول ما يفكر – أو فكّر به سابقًا – ناس محددون تتعلق بأسئلة ميتافيزيقية مختلفة. سيحتوي تاريخ عن الميتافيزيقا الكثير من المعلومات عن ما اعتقد به أفلاطون وديكارت وغيرهما من الميتافيزيقيين العظماء في الماضي. كتابنا هذا لا يحتوي على معلومات، غير معلومات عرضية قليلة حول ما قاله أناس محترمون ومشهورون – لهم شهرة بين الفلاسفة ولهم احترام من قِبل مؤلف هذا الكتاب على أي حال – حول مواضع محددة في الميتافيزيقا.
قد تتسأل إحداهن : لماذا الميتافيزيقا مختلفة جدًا عن الجيولوجيا وقانون الضرائب ونظرية الموسيقى؟ لماذا لا توجد معلومات ميتافيزيقية؟ لماذا دراسة الميتافيزيقا لم تنتج حقائق مؤسِسة [يُبنى عليها]؟ ( هناك ألفان وخمسمئة عام لتأتي ببعض المعلومات [على الأقل] ) هذا السؤال في الحقيقة حالة خاصة من سؤال أعم : لماذا لا توجد معلومات فلسفية؟ الوضع الذي يواجه طالب الميتافيزيقا لا يختلف بحال عن الوضع الذي يواجه أي طالب في أي حقل من حقول الفلسفة. لو أخذنا الأخلاق على سبيل المثال، سنكتشف أنه لا توجد لائحة من الحقائق المؤسِسة يُتوقع من طالب الأخلاق تعلّمها (ولا توجد مناهج أو نظريات مقبولة بحيث يُمكن للمتخصص في الأخلاق تطبيقها في البحث وفحص الإجابات على أسئلة أخلاقية لم يُبت فيها الأمر بعد). ويسود نفس الوضع في الأبستمولوجيا وفلسفة الرياضيات وفلسفة القانون وكل الحقول الأخرى للفلسفة(5). بالفعل، أغلب الناس الذين فكّروا في هذا الأمر سيرون أن هذه واحدة من الصفات المُميّزة للفلسفة. لو أن أحد فروع الفلسفة خضع فجأة لتحوّل ثوري، وبدأ – كنتيجة لهذا التحول – في إنتاج معلومات حقيقية، سيُكف عن اعتباره فرعًا من الفلسفة، وسيتم اعتباره علمًا من العلوم(6). في الواقع، القول بأن هذه هي الكيفية التي بدأت بها “العلوم” أطروحة معقولة جدًا : في وقت من الأوقات، ما نُسميه الآن علمًا طبيعيًا لم يكن ممتازًا عن ما نُسميه الآن فلسفة : كانت تُسمى فلسفة طبيعية حينها. (في وقت قريب مثل بداية القرن التاسع عشر، عادةً ما يستعمل الناس كلمة “فلسفي” ويعنون ما تعنيه “علمي” اليوم(7)، ولا تزال الفيزياء تسمى “الفلسفة الطبيعية” في الجامعات الاسكتلندية.) عندما بدأت العلوم – كما نسميها اليوم – في إنتاج معلومات حقيقية، بدأ يتم رؤيتها على أنها شيء مختلف عن الميتافيزيقا والأبستمولوجيا والأخلاق، وكلمة “علم ( Science )” – التي أتت من الكلمة اللاتينية لـ”معرفة” – حصرت بها. (الكلمة موجودة مُسبقًا، لكن قبل ذلك الوقت، كان “العلم” ما نُمسيه “تخصص (Discipline)” اليوم.)
حسنًا، لماذا لا توجد معلومات فلسفية؟ لماذا لا يوجد بنية للحقيقة الفلسفية (body of philosophical fact ) مُتفق عليه؟ لماذا لا يوجد شيء مثل اكتشاف فلسفي؟ لماذا لا توجد نظريات فلسفية -حتى ولو اعترفوا أنها غير كافية في [تفسير] نواحٍ مختلفة- تكون على الأقل مقبولة كونيًا على أنها أفضل النظريات التي تتعامل مع موضوع بحثها الخاص الذي نملكه في وقتنا الحالي؟
لن يكون من الصحيح كلياً القول أنه بالتعريف لا يوجد بنية للحقيقة الفلسفية؛ لأنها صفة مميزة للفلسفة أنها لا تمتلك معلومات لتقدمها. بعض ما كان يُسمى يومًا ما فروعًا فلسفية ( مثلًا، العلم الطبيعي والمنطق وعلم النفس ) حدث وأن بدأوا – في نقطة معينة في التاريخ – في أن يكونوا مصدرًا للمعلومات، وبالتالي، ولهذا السبب، كُف عن تسميتهم “فلسفة”، لكن الميتافيزيقا والأخلاق وأغلب فروع الفلسفة الأخرى لم يتمكنوا من تحقيق هذه النقلة التي حققها العلم الطبيعي والمنطق وعلم النفس. لماذا لم يفعلوا ذلك؟
هذا سؤال مهم للغاية لن أتظاهر بأنني أعرف الإجابة عليه. لحظة تأمّل ستبين أنه لا يمكن أن يحظى السؤال بإجابة غير مثيرة للجدل؛ لأن السؤال نفسه سؤال فلسفي. إنه سؤال ينتمي إلى فلسفة الفلسفة (لأن الفلسفة نفسها واحدة من الأنشطة الإنسانية التي لها خصائص طرح أسئلة عامة ومحيرة جدًا، السؤال الحالي واحد منهم) أو إلى ميتافلسفة (metaphilosophy ، ما بعد الفلسفة)، كما يُطلق على فلسفة الفلسفة أحيانًا.
الفلاسفة لم يكونوا عميانًا عن حقيقة أن الفلسفة لم تكن قادرة على إنتاج أية نتائج غير مثيرة للجدل. وكما هو متوقع، لم ينزع الفلاسفة إلى لوم أنفسهم فيما يخص هذه الحالة. ويُصعب أن نرى كيف يُمكن أن يكونوا هم الملومين. لا يُمكن أنه لم يوجد بنية للحقيقة الفلسفية ببساطة لأن الفلاسفة أغبياء. على الرغم من أن بعض العلماء لمّحوا إلى هذا، يبدو من المُستبعد إحصائيًا أن أي مجال بحثي سيجلب الأغبياء فقط. بالإضافة إلى أنه وُجد فلاسفة كانت لهم إنجازاتهم خارج الفلسفة، ولم يكونوا ذَوي ذكاء عالٍ فحسب، بل عباقرة عظماء. هذا كان صحيحًا بالتحديد في القرن السابع عشر، عندما ابتكر الفيلسوف ديكارت الهندسة التحليلية، وابتكر الفيلسوف لايبنتز التفاضل والتكامل للحسابات متناهية الصغر (infinitesimal calculus)(8). مع هذا، بغض النظر عن هذه الإنجازات، عندما حوّل كلٌ من لايبنتز وديكارت اهتمامهما إلى الميتافيزيقا والأبستمولوجيا وفلسفة العقل، أنتجا عملًا مثيرًا للجدل مثله مثل أي عمل فلسفي آخر. كلا من هذين الرجلين اعتقد أنه أسس حقائق فلسفية معينة. كل واحد منهما اعتقد أنه حقق اكتشافات فلسفية، اكتشافات بنفس المعنى لاكتشاف هارفي للدورة الدموية مثلًا. لكن هذا لم يكن حكم التاريخ. في النهاية، عملهما الفلسفي لم يُقنع أحدًا. الهندسة التحليلية والتفاضل والتكامل أداتان ملازمتان للتفكير العلمي إلى اليوم، لكن عمل ديكارت ولايبنتز الفلسفي هو ببساطة جزء من تاريخ الفلسفة.
إذا كان عدم وجود نتائج مُؤسِسة في الفلسفة ليس خطأ الفلاسفة أنفسهم، فما هو تفسيره؟ الفلاسفة الذين فكّروا في هذا السؤال أعطوا نوعين من الإجابات. طِبقًا لأحد وجهات النظر، إنها أثر مترتب عن طبيعة الفلسفة : الأسئلة الفلسفية أسئلة معيوبة (ناقصة)، معيوبة لأنه لا إجابات لها. طِبقًا لوجهة النظر الأخرى، إنها عاقبة طبيعة العقل البشري : يوجد شيء ما في العقل البشري لا يجعله ملائما لبحث الأسئلة الفلسفية.
كمثال لوجهة النظر الأولى، يُمكن أن نأخذ المدرسة الفلسفية المُسمى الوضعية المنطقيةالتي ازدهرت بين الحربين العالميتين(9). طِبقًا للوضعين المناطقة، كل العبارات والأسئلة الميتافيزيقية لا معنى لها. وطالما أنه تقريبًا كل العبارات والأسئلة الفلسفية التراثية (كما أشرنا أعلاه) لها عنصر ميتافيزيقي جوهري ومهم، تقريبًا كل الأسئلة والعبارات الفلسفية التراثية لا معنى لها.
في قول أن العبارات والأسئلة الفلسفية لا معنى لها، لا يقول الوضعيون المناطقة أن هذه الأسئلة والعبارات لا قيمة لها، أو أنها بعيدة عن الاهتمامات الحقيقية للحياة الإنسانية. كانوا يقدمون أطروحة أكثر راديكالية. كانوا يقولون أن هذه “العبارات” و”الأسئلة” لم تكن عبارات أو أسئلة على الإطلاق، بل مجرد تسلسل لكلمات لها مظهر زائف للعبارات والأسئلة. بالتالي، بالنسبة للوضعي المنطقي، سؤال فلسفي مثل : “لماذا هناك عالم؟” هو مجرد جلبة ملفوظة؛ لأن له الشكل النحوي للسؤال، تم أخذه خطأً على أنه سؤال. يُمكن مقارنته بـ”أسئلة” مثل : “ما ارتفاع فوق؟” و “أين يختفي حِجرك عندما تقف؟” لو كانت الأسئلة الميتافيزيقية – وبشكل أعم، الأسئلة الفلسفية – لا معنى لها بهذا المعنى؛ فلا عجب أن الفلاسفة لم يكن في إمكانهم الاتفاق على كيفية “الإجابة” عليها. إذا حدّق الشخص في النار لفترة طويلة، سيرى الشخص صورًا هناك، وبما أن الصور التي تُرى في النار هي محض انعكاسات نفسيّة للرائي، يُتوقع أن يرى أشخاص مختلفون صورًا مختلفة.
مثل الأنظمة الميتافيزيقية لديكارت ولايبنتز، تنتمي الوضعية المنطقية بالكامل الآن إلى تاريخ الفلسفة. مثلها مثل تلك الأنظمة لم يكن في مقدورها تقديّم أساس لأي شكل من أشكال الإجماع الفلسفي. إذا كانت – كما يزعم الوضعيون المناطقة – الأنظمة الميتافيزيقية في الماضي صورًا كثيرة تُرى في النار، الوضعية المنطقية نفسها ستظهر على أنها مجرد صورة إضافية أخرى : رأى بعض الفلاسفة الأشياء على ذلك النحو والبعض الآخر لم يرى ذلك، وأولئك الذين على ذلك النحو لم يكن في مقدورهم جعل المجتمع الفلسفي ككل يرى الأشياء بطريقتهم. ( يُمكن أن نقابل هذه الحالة مع حالة موظف صغير في مكتب تسجيل براءات الاختراع السويسري يُدعى ألبرت آينشتاين. في سلسلة من البحوث المنشورة ما بين 1905 – 1915، قدّم هذا الشاب المجهول ذلك الحين طريقة في النظر إلى العلاقات بين الحركة والمادة والطاقة والمكان والزمان والجاذبية تختلف اختلافًا جذريًا عن الرؤية المقبولة لهذه العلاقات. خلال بضع سنوات، رأى مجتمع الفيزيائيين الأشياء على طريقته.) مصير الوضعية المنطقية هو مصير كلّ محاولات تشخيص فشل الفلسفة في إنتاج بنية من الحقائق المؤسسة، أو حتى بنية نظريات مقبولة مؤقتًا. مثل هذه التشخيصات هي دائمًا “مجرد فلسفة أخرى” وتعاني من نفس الأعراض التي يفترض أنها تفسرها : تُقدّم [هذه الأطروحات الفلسفية]، يتجادل الناس حولها، البعض يقبلها، البعض فقط، وفي النهاية، تنزوي لتحتلّ مكانًا في تاريخ الفلسفة.
ماذا عن وجهة النظر الأخرى المُشار إليها أعلاه، وجهة النظر التي تُفسر فشل الفلاسفة في إنتاج بنية من المعلومات راجع إلى قصور جوهري في العقل البشري في العثور على إجابات للأسئلة الفلسفية؟ أشهر مثال لوجهة النظر هذه اُعتقد من فيلسوف القرن الثامن عشر الألماني إيمانويل كانط. اعتقد كانط أن الأسئلة الميتافيزيقية -مثل “هل للعالم بداية في الزمان، أم أنه موجود منذ الأزل (قديم)؟” – لها معنى لكن البشر لم يُصمموا على النحو الصحيح الذي يُمكنهم من العثور على إجابات عليها، وإذا أصرّوا على المحاولة في فعل ذلك، سيقعون في تناقضات. لم يبني كانط موقفه على صفة ما (تنتمي) للبشر، صفة ما قد تغيب عن المريخيين ( من المريخ ) أو عن الدلافين الذكيّة. اعتقدَ أن تشخيصه لفشل الإنسان في تحقيق نتائج ميتافيزيقية مؤسِسة ينطبق على أي كائنات مُمكنة تُمثل حقيقة خارجية عن أنفسها من خلال حالاتها الداخلية. (على سبيل المثال، إذا علمت أن هناك شجرة – شيء خارج ذهني، شيء يوجد بمعزل واستقلال عني – أمامي، يُمكن لهذا أن يحدث فقط لأنني أمتلك إحالة داخلية، أو ذهنية عن تلك الشجرة أمامي. لو كان ذهني خاليًا، لو لم يكن هناك بنية في ذهني معناه بالنسبة لي “هنا شجرة”، لن يكون في مقدوري معرفة أن هناك شجرة أمامي.) هذا الوصف مجرّد وعام للغاية بحيث يُصعب رؤية كائن ما لا يحقق ذلك. ربما الله وحده القادر على هذا. لو كان ذلك كذلك، فإذا كان كانط محقًا، فالله وحده يعرف الإجابة على أي سؤال ميتافيزيقي.
قد تكون هناك صيغ أقل حِدة من صياغة كانط. قد يعتقد أحدهم أن فشل الإنسان في تحقيق نتائج ميتافيزيقية مُؤسسة يعود إلى ميزة للعقل الإنساني، قد تكون هذه الميزة غائبة عن عقول المريخيين أو الدلافين الذكية. يشير علم الأحياء التطوري أن البشر يحملون مواهب عقلية محددة وفصائل ذكية أو عاقلة أخرى قد تحمل مواهب محددة مساوية لكن مختلفة. نحن ككائنات، مهرة في الفيزياء و – كل الأدلة تُشير إلى هذا – سيئين في الميتافيزيقا. ربما نكتشف في يومٍ من الأيام بين النجوم مخلوقات (أنواع) ماهرة في الميتافيزيقا وسيئة في الفيزياء(10). ربما أفضل الميتافيزيقيين البشر هم مثل البهلوانات : البهلوانات هم أناس – بفضل تدرّبهم الطويل والتزامهم الشاق – يمكنهم فعل ما تفعله القرود ساكنة الأشجار بطريقة أفضل من غير أي تدريب على الإطلاق. يحقق البهلوانات ما يحققونه من خلال أخذ قدرات اليد والذهن والعين الاستيعابية التي “صُممت” لأغراض لا علاقة لها بالتأرجح عبر الهواء، ودفع هذه الطاقات الاستيعابية إلى أقصى مداها. الميتافيزيقيون البشر ربما مثل هؤلاء : يعملون من خلال أخذ طاقات الذكاء البشري الاستيعابية التي صُممت لأغراض لا علاقة لها بالأسئلة حول الحقيقة النهائية، ودفع هذه الطاقات الاستيعابية إلى أقصى مداها. ربما المقارنة التي استخدمها صامويل جوهانسون لغرض مختلف تنطبق على الميتافيزيقي الإنسان : مثل هذا الشخص مثل الكلب الذي يسير على رجليه الخلفيتين. يقول الدكتور جوهانسون : “لا يفعلها بشكل جيد، لكنك تتفاجأ من أنه فعلها أصلًا.”
هذه الصياغة الأخيرة – الأقل حِدة – لوجهة النظر الثانية هي الصيغة التي أفضّلها. مع هذا، ألاحظ أن الحل المُقترح هو مثله مثل اقتراح الوضعيين المناطقة : “مجرد فلسفة أخرى.” في النهاية علينا أن نعترف بأننا لا نملك أي فكرة عن لماذا لا يوجد بنية للنتائج الميتافيزيقية المؤسِسة. مع هذا، لا يمكن إنكار أن هذه حقيقة، وعلى الطالب المبتدئ في الميتافيزيقا أن يُبقي هذه الحقيقة وتطبيقاتها في باله. أحد تطبيقاتها أنه لا مؤلف هذا الكتاب ولا أستاذك ( لو كنت تقرأ هذا الكتاب لأنه كتاب مقرر دراسيًا ) له نفس الموقف والعلاقة معك التي لمؤلف كتابك ( أو أستاذك ) في الجيولوجيا أو قانون الضرائب او نظرية الموسيقى. كل هؤلاء الناس أساتذة في بنية معرفية معينة وفي عدة أمور، لو لم تتفق معهم [حولها]، ستكون مخطئًا ببساطة. لكن في الميتافيزيقا، لك الحق الكامل في الاختلاف مع أي شيء يقوله الخبراء أصحاب المعرفة، عدا أقوالهم حول ما قاله الفلاسفة في الماضي أو ما يقولونه في الحاضر.(11)
لنأخذ مثالُا عمليًا : لطالما اعتقدت أليس أن لها روحا خالدة. [ذات يوم] سجّلت في مقرر في الميتافيزيقا. يعتقد أستاذها ألفريد – كما اعتقد أنا – أن ليس للناس أروحا خالدة. هناك عدة سيناريوهات [لهذه الحالة]:
من المحتمل أن ألفريد سيعامل موقفها بصفته أستاذها لهذا المقرر كفرصة ليسخر فيها من فكرة أن هناك أروحًا أبدية. بالنسبة للتأثير على آراء الطلّاب، هذا أسلوب مؤثر للغاية. لكن لا يجب أن تكون أليس متأثرة : لأن وجود شخص ما يرى فكرة ما سخيفة ليس سببًا لرفضها.
من المحتمل أن ألفريد سيعامل أطروحة أنه لا توجد أرواح خالدة بوصفها حقيقة مؤسِسة، بوصفها شيئًا على كل الناس المتعلمين معرفته. هذا أيضًا أسلوب مؤثر للغاية للتأثير على آراء الطلّاب. مع هذا، مجددًا، لا يجب أن تكون أليس مُتأثرة. يجب أن تسأل نفسها إذا ما كان صحيحًا حقًا أن كل المتعلمين ينكرون وجود أرواح أبدية. ( على نحو لا يمكن إنكاره، ربما يُصعب عليها صياغة هذا السؤال بشكل واعٍ، بما أن ألفريد في الغالب لن يقول بكلمات كثيرة أن الناس المتعلمين لا يؤمنون بالأرواح الخالدة. سيقولها ببساطة وكأنه شيء يعرفه الجميع. ) ويجب عليها أن تسأل نفسها – إذا كان صحيحًا – أن كل الناس المتعلمين لهم أسباب جيدة لمعتقدهم، في النهاية، المتعلمون جيدًا يؤمنون بأي شيء : فضل الحكم الاستعماري، والماركسية، وعلم النفس الفرويدي على سبيل المثال.(12)
من المحتمل أن ألفريد سيقدم أسبابًا في اعتقاد أنه لا توجد أرواح خالدة. سيعرّف مصطلحاته، وسيقدم فروق ذات صلة، ويستشهد بحقائق علمية مختلفة، وأخيرًا، سيستعمل هذه المصطلحات والفروق والحقائق بوصفها الأساس لحجة أو أكثر على عدم وجود الأرواح الخالدة. هنا -أخيرًا- شيء يُمكن لعقل أليس الاشتغال عليه. يمكنها فحص التعاريف والفروق وتحاول أن تقرر إذا ما كانت هذه الحجج تثبت هذا حقًا. ( ربما أيضًا سترغب في التأكّد من الحقائق التي يزعم أنها علمية لترى إذا ما كان ألفريد فهمها فهمًا صحيحًا أم لا ) إذا بدا لها أن ثمة شيئا خاطئا أو مشكوكا فيه حول الحجة، يمكنها – [بل] وعليها – أن ترفع يدها.
لكن افترض أنه لا يمكنها العثور على أي شيء يبدو لها خاطئا في الحجة. ما الذي عليها أن تفعله حينها؟ هل عليها أن تتخلى عن اعتقادها أن بوجود روح خالدة؟ حسنًا، ربما. هذا الشيء راجع لها في الحقيقة. في النهاية، ألِيس هي المسؤولة عن ما تعتقده ألِيس. لكن ليس عليها أن تتخلى عن اعتقاداتها. ربما تحاجج كالتالي : ” اسمع، لو كان هناك حجة دامغة لنتيجة أنه لا وجود لروح أبدية، الكل سيعرفها، أو سيعرفها الخبراء المتخصصون على الأقل. لو كانت هذه الحجة موجودة، كل فيلسوف سيعتقد أنه لا وجود للأرواح الخالدة. أو على الأقل كل فيلسوف [سيعتقد بذلك] بشكل عملي. لكن الفلاسفة لا يتفقون حول أي شيء؛ لذا لا يمكن أن يكون هذا صحيحًا. أراهن أن هناك الكثير من الفلاسفة الذين يعرفون كل ما يتعلق بهذه الحجج ومع ذلك لا يزالون يؤمنون بالأرواح الخالدة. لذا لا بد من وجود الكثير من الفلاسفة الذين يرون أن ثمة خلل ما في هذه الحجج. هناك احتمال أن بعضهم قال ما يرى أنه خلل فيها. اعتقد بأنني سأسأل الأستاذ كيف أن هؤلاء الفلاسفة الذين يختلفون معه سيردون عليه.” لو سجلت أليس في هذا المقرر، فعليها أن تدرك أنه من المحتمل أن ألفريد قد لا يعرف أفضل الحجج ضد موقفه. يميل الناس إلى افتراض أن خبيرًا ما في حقل دراسي معين يجب أن يكون عليمًا بكل شاردة وواردة في ذلك الحقل، لكن هذا غير صحيح. المتخصصون – أناس تعلن شهاداتهم أنهم متخصصون – يمكن أن يكونوا جاهلين في أشياء يجب عليهم معرفتها حقًا. يجب عليها أن تدرك أيضًا أن ألفريد قد لا يعرض الحجج المضادة لموقفه على أفضل نحو ممكن أو مقنع ( يصعب كثيرًا في الحقيقة تمثيل جزئية المناصر المقتنع لموقف بالنسبة لشخص غير متعاطف معه.) عليها أيضًا أن تتذكر أن ألفريد أخبر منها في فن الخلاف الميتافيزيقي، وحقيقة أن في إمكانه “هزيمتها” في مناقشة يجب أن يتوقع بناء على هذه الأرضية لوحدها، لا يعني هذا بالضرورة أن موقفها غير قابل للدفاع عنه.
كل هذا مثال تطبيقي لنصيحة عملية للطالب المبتدئ في الميتافيزيقا. لتلخيص هذه النصيحة : خذ أي شيء يقال في هذا الكتاب ( أو أي كتاب آخر عن الميتافيزيقا ) أو ما يقوله أستاذك على محمل الشك. ما عليك أن تأمل في تعلمه من كتاب تمهيدي في الميتافيزيقا، أو مقرر تمهيدي في الميتافيزيقا هو كيفية تكوين موقف فلسفي والدفاع عنه. وهذا شيء يجب عليك فعله بنفسك.
في الفصول المُقبلة، سأكوّن موقفًا فلسفيًا وسأدافع عنه فيما يخص عدة مواضيع. بمعنى، سأقول ما أراه صوابًا، وسأبيّن لماذا أرى هذه الأشياء – وليس غيرها – هي الصواب. سأفعل هذا لأنها الطريقة الوحيدة التي يمكنني فيها كتابة كتاب. لأنني اخترت كتابة الكتاب على هذا النحو؛ فقد يحمل عدة تشابهات ظاهرية لنص في الجيولوجيا أو في نظرية الموسيقى. لكن تذكر، لا يجب عليك تصديق أي شيء في هذا الكتاب، وأن كل شيء في هذا الكتاب متنازع فيه من قِبل عدة أشخاص لهم على الأقل نفس التقدير الذي أحظى به.
قارئ كتاب ما له الحق في معرفة تحيزات كاتبه. هذه صحيح خصوصًا في موضوع مثل الميتافيزيقا، حيث لا يوجد بنية من الحقائق المؤسِسة، لأن كتاب في مثل هذا الموضوع لا مناص من أن يكون متأثرًا كثيرًا بآراء كاتبه في كل من الشكل والمحتوى. الميتافيزيقي الإنجليزي في القرن التاسع عشر ف.هـ.برادلي قال ذات مرة أن الميتافيزيقا هي محاولة العثور على أسباب سيئة لما سيعتقد به الشخص على أي حال. ربما كانت هذه مقولة بالغة التشاؤم. وجدت حالات لميتافيزيقيين غيّروا آراءهم، وربما بعض الأسباب التي قُدمت من قِبل ميتافيزيقيين في تدعيم أطروحات مُختلفة هي أسباب جيدة. رغم ذلك، عليّ الاعتراف أنه ربما هناك بعض الحق في تهمة أن هناك أطروحات “سأعتقد بها على أي حال”، أطروحات سوف أؤمن بها بغض النظر عن ما الحجج الفلسفية التي ستُقدّم إليّ.
لعل القارئ يتذكر بأنني في بداية الفصل سردت ثلاثة أسئلة وأشرت أنه معرفة الإجابات على هذه الأسئلة الثلاثة يعني معرفة الحقيقة النهاية حول كل شيء. وأنني قدمت مجموعتين من الإجابات على هذه الأسئلة؛ لكي أوضّح كيف تبدو الإجابات عليها. المجموعة الأولى من الإجابات تُعبّر عن معتقداتي إلى حد بعيد. ( إلى حد بعيد [أقصد بها] : لا اتفق تمامًا مع كل شيء مطروح في مجموعة الإجابات تلك.) علاوة على ذلك، هذه المعتقدات ليست معتقدات اعتقد بها بتردد أو بفتور. هي اعتقادات راسخة حول أمور أرى بأنها في غاية الأهمية، وصحيح إلى حدٍ بعيد بأنني سأعتقد بها بغض النظر عن الحجج الميتافيزيقية التي ستُقدّم إليّ. بالتأكيد،حاولت أن أكون عادلًا وموضوعيًا في مناقشة وجهات النظر المُقابلة لوجهات نظري، لكن من المُستبعد أنني نجحت في ذلك. اعتقاد راسخ آخر لي هو أنه من المستبعد أن يعثر القارئ على كتاب في الميتافيزيقا لا يتمسّك مؤلفه بوجهة النظر هذه أو تلك بنفس الرسوخ وطريقة “عدم القابلية للنقاش” التي اعتقد بها بالرؤية المُقدّمة في مجموعة الإجابات الأولى على أسئلتنا الميتافزيقية الثلاثة. رأيت كُتبًا عن الميتافيزيقا ( وعن فروع أخرى من الفلسفة ) تعطي انطباعاً أن مؤلفيها وصلوا إلى المواقف التي يدافعون عنها في هذه الكتاب بناء على الحجاج المنطقي والمعايرة الموضوعية لبيانات جُمعت بدقة. مؤلفو هذه الكتب يكتبون بطريقة وكأنها تُشير إما إلى أنه لا تحيزات لهم عندما بدأوا محاولة صياغة آراءهم الميتافيزيقية أو إلى أنهم وضعوا تحيزاتهم جانبًا بكل صرامة وسمحوا لأنفسهم أن يتأثّروا بالدليل والحجة فقط. لا أدّعي أنه في إمكاني قراءة العقول، لكنني أشك في ما إذا كان هناك ميتافيزيقي اتبع هذا النهج فعلًا.
ما يرجح أنه صحيح في الغالب هو هذا : العديد من العوامل بجانب الدليل والحجة تؤثر في صياغة آراء الناس. يمكننا أن نذكر الدين ( ومعاداة الدين )، والسياسة، والولاءات لجماعات اجتماعية معينة، وكراهية جماعات اجتماعية أخرى، والرغبة في الطمأنينة العاطفية، والرغبة في أن تكون مُحترمًا بين من حولك، والرغبة في يُفكر بك على أنك أصيل ومبدع، والرغبة في أن تُدهش [من حولك]، والرغبة في أن تكون في موقفٍ ما لتفرض آراءً على الآخرين، والرغبة في الانتماء إلى جماعة من الناس متشابهة في التفكير، يجامل المنتمون إليها بعضهم البعض من خلال السخرية من أناس لهم آراء تختلف عن تلك الجماعة، والرغبة في أن تكون واحدًا من جماعة صغيرة من الناس المتنورين الذين يقاومون بشجاعة ضد خرافات العامة.
هناك معنيان لما يمكن أن يقال عن شخص أنه مهتم بإجابة سؤال ما. الأول، قد يريد الشخص أن يعرف ما هي الإجابة الصحيحة على ذلك السؤال. الثاني، قد يرغب الشخص بقوة في أن يكون جوابًا معينًا على ذلك السؤال هو الجواب الصحيح. أولئك الذين يهتمون بشدة بالمعنى الأولى على الإجابات على الأسئلة الميتافيزيقية (أو أية أسئلة) سيتأثرون بالدليل والحجة فقط. أولئك الذين يهتمون بشدة بالمعنى الثاني بإجابات عن الأسئلة الميتافيزيقية ( أو أي أسئلة ) – على الرغم من أنهم قد تؤثر بهم الحجة والدليل – سيتأثرون أيضًا – بشكل لا مفر منه تقريبًا – بعوامل من قبيل المذكور أعلاه. من المُستبعد أن شخصًا تكبّد عناء كتابة كتاب عن الميتافيزيقا سيكون متحررًا تمامًا من أي رغبة في أن تكون إجابات محددة هي الإجابات الصحيحة على أسئلة ميتافيزيقية. بالتالي من المُرجح أن مؤلف كتابٍ ما حول الميتافيزيقا سيكون عُرضة لتحيزات ستنبثق من تلك العوامل المسرودة في الفقرة السابقة. تُشير بحوث سيسيولوجية حول البحث العلمي بقوة إلى أن هذه هي الحالة في العلوم (Science) [أيضًا]، ومن المُستبعد أن يكون الميتافيزيقيون أكثر تحررًا من التحيزات من العلماء (Scientists).
في العلوم (وخاصة في العلوم “الصلبة” مثل الفيزياء والكيمياء)، يتم إلى حد بعيد تصحيح تحيزات الباحثين -على المدى الطويل- من خلال مسؤولية هاته العلوم بإزاء البيانات المُلاحظة. يُتوقع من نظرية علمية ما في أن تطرح توقعاتها حول الكيفية التي ستظهر عليها التجربة وما الملاحظات التي ستكشفها، وإذا – مجددًا، على المدى الطويل – لم تحرز نظرية ما التوقعات الصحيحة، سيتم التخلي عنها حتى ولو حققت كل أنواع العوامل المذكورة أعلاه جاذبية سيكولوجية بالنسبة لأعضاء المجتمع العلمي. لكن لا وجود لمثل هذه الحركة التصحيحية في الميتافيزيقا. إذا كان هناك نظريتان ميتافيزيقيتان متنافستان، لن يكون هناك تجربة ستفصل بينهما. لن يختلفوا حول كيف يبدو العالم للمُلاحظ، مهما كان تعقيد وتطور آلة المُلاحظ(13). بالتالي، غالبًا ما سيكون موقف الميتافيزيقي – إلى درجة ملحوظة – انعكاس لتحيزات مُعينة، ومع هذا قد تدين للدليل والحجة. في الغالب، سيكون هناك عدة أطروحات سيقبلها الميتافيزيقي مهما كان الدليل أو الحجج التي سينتبه لها. حاولت أن أنبّه القارئ مُسبقًا إلى ما الأطروحات التي اعتقد بها على هذا النحو.
اقتراحات لقراءة متقدمة
يُمكن أن تجد مقالات مُفيدة للغاية تقريبًا في كل موضوع فلسفي قد يخطر على بالك فيموسوعة الفلسفة الضخمة التي حررها بول إدوارد. نُشرت هذه الموسوعة في عام 1967 وبالتالي لم تعد تُمثل “الموضة”. على الرغم من ذلك، يبقى مصدرًا لا غنى عنه لطالب الفلسفة. نُشر ملحق مُتمم في عام 1996. المقالات في موقع موسوعة ستانفورد للفلسفة(http://plato.stanford.edu) ذات جودة عالية جدًا (مؤلف هذا الكتاب “يكشف عن اهتمامه”: هو كاتب مقالة “ميتافيزيقا”) وهي -بالطبع- محدّثة باستمرار.
يحتوي كتاب المختارات الميتافيزيقا : الأسئلة الكبرى (Metaphysics: The Big Questions ) الذي حرره دين و. زيمرمان ومؤلف هذا الكتاب على قراءات في كل المواضيع المُناقشة في هذا الكتاب.
نال تشخيص كانط في فشل الميتافيزيقا في أن تصبح علمًا بالمعنى نفسه الذي نقصده للرياضيات والفيزياء أكمل تعبير وأكثره منهجية في كتابه نقد العقل المحض (1781، الطبعة الثانية التي تعتبر نسخة مُنقحة صدرت في 1787). لسوء الحظ، هذا الكتاب مستغلق على المبتدئ. هناك كتابان “صغيران” عن فلسفة كانط وجدتهما أجيال من الطلاب المبتدئين مفيدين للغاية، بغض النظر عن حقيقة أن بعض المتخصصين في فلسفة كانط لهم ملاحظات حولهما : كتاب إيجوين تعليق مختصر على كتاب كانتْ نقد العقل المحض (A Short Commentary on Kant’s Critique of Pure Reason)، وكتاب كورنر (Körner): كانط.
كتاب أيه. جي. أير اللغة والحقيقة والمنطق كتاب كلاسيكي مشهور في شرح الوضعية المنطقية، كُتب بحماسة مؤمن حديث عهد بإيمانه.
كتاب كولين مكاين : مشاكل في الفلسفة (Problems in Philosophy) بحث عميق ومتين لسؤال : لماذا الفلسفة غير قادرة على إنتاج نتائج غير مثيرة للجدل.
هوامش :
ولن تساعد المعلومات حول تاريخ الكلمة كثيرًا. مع هذا، هذه رواية مختصرة قد تكون غير ذات فائدة كبيرة عن الكيفية التي حصلنا عليها على كلمة “ميتافيزيقا”:
وضعت كلمة “ميتافيزيقا” من قِبل الإغريق القدامى. أتت من كلمتين إغريقيتين : “ميتا”، التي تعني “بعد” أو “ما وراء”، و”فيزيقا” التي تعني “طبيعة”. أحد معاني كلمة الطبيعة – وهو معنى غير شائع بالمرة – شيء قريب من كلمة “الكون”. لهذا السبب القوانين الأساسية التي يسير عليها الكون تُسمى قوانين الطبيعة، وأولئك العلماء الذين يرتبط عملهم أشد الارتباط بالقوانين الأساسية يُسمّون فيزيائيون (physicists). تُشير هذه الحقائق إلى تفسير واضح إلى ما كان في بال الإغريق عندما وضعوا كلمة “ميتافيزيقا” : عنوا بهذه الكلمة الدلالة على دراسة تذهب ما وراء دراسة الطبيعة، بحث شؤون مفارقة بطريقة ما عن تلك المبحوثة في الفيزياء. لسوء الحظ، قد يكون هذا التفسير الواضح خاطئًا ( مثلًا، لم تستعمل كلمة “ميتا” من قِبل الإغريق بالمعنى الاستعاري لكلمة “ما وراء” المطلوبة في هذا التفسير ).
ربما التفسير الصحيح هو التالي : في القرن الرابع قبل الميلاد، كتب الفيلسوف اليوناني أرسطو ( من بين كتب أخرى ) كتابًا حول الطبيعة يسمى الطبيعة (Physics) أو (Ta Phusika) وكتابًا حول ما سماه “الفلسفة الأولى”. كان هذا الكتاب الأخير خاصًا بمواضيع مختلفة تنتمي إلى ما نُسميه اليوم ميتافيزيقا. بعد موت أرسطو، تم ترتيب كتبه بحسب ما اعتبر من طلّاب فلسفته الترتيب المُلائم. في هذا الترتيب الاتفاقي، الكتاب الذي كان حول “الفلسفة الأولى” أتى مباشرة بعد كتاب الطبيعة، و بدأ طلاب فلسفة أرسطو الإشارة إليه باسم ما بعد الطبيعة (Meta ta Phusika)، أو ميتافيزيقا. ربما لم يقصدوا بهذا العنوان أكثر من “الكتاب الذي أتى بعد كتاب الطبيعة [في الترتيب]”، أو ربما قصدوا ” الكتاب الذي يتعامل مع مواضيع لا يمكن لأحد دراستها إلا بعد إتقان كتاب الطبيعة“.
ممارس الميتافيزيقا يُسمى ميتافيزيقي (metaphysician) وليس – كما قد يتوقع البعض- metaphysicist.
وفقًا لأفلاطون، وُضعت كلمة “فلسفة (Philosophy)” من قِبل أستاذه سقراط. إذا كانت قصة أفلاطون صحيحة تاريخيًا، فهي ترصد أحداثًا وقعت في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد. في تلك الأيام، كان هناك رجال يكسبون قوت يومهم من خلال تعليم الحكمة (في اللغة الإغريقية : صوفيا Sophia). وبالفعل كان أكثرهم نجاحًا يحقق مكسبًا جيدًا جدًا. ولأن هؤلاء الرجال أدّعوا أنهم حكماء وفي إمكانهم تعليم الحكمة إلى الآخرين، كانوا يُسمّون “سفسطائيون Sophists”. لكن سقراط كان يعتقد أن هؤلاء السفسطائيين لم تكن عندهم حكمة ليعلّموها، وفي الحقيقية، ما كان يعلّمه العديد منهم – مثل أن الأخلاق ليست إلا مواضعة بشرية – خاطئ ومضر. بشكل مثير للاهتمام، لم يدّعي سقراط بأنه حكيم. ( أو ليس على نفس النحو الذي أدعى فيه السفسطائيون الحكمة. اعتقدَ أن مجموع حكمته يكوّن أنه لم يمتلك ذلك النوع من الحكمة.) لكنه قال بالرغم من أنه ليس حكيمًا ومعرفته بأنه ليس حكيمًا، كان يرغب ويحب بشدّة أن يكون حكيمًا. لم يقل عن نفسه بأنه مالك للحكمة بل مُحبًا لها. يقول سقراط : لو أن شخصًا أحب ما لم يمتلك؛ فإنه سيسعى خلف ذلك الشيء وسيحاول امتلاكه. هذا الإعلان كان أصل كلمة “فلسفة Philosophy”، بالنسبة للإغريق، كلمة “فيلوسوفيا Philosophia” تعني بالضبط “حب الحكمة”. اُستعملت الكلمة من قِبل أفلاطون، ومن قِبل تلميذ أفلاطون : أرسطو للدلالة عما كانا يكتبان كتبهما عنه، وبما أن كل الفكر الغربي اللاحق حول هذه المواضيع هو مواصلة لعمل أفلاطون وأرسطو، أصبحت هذه الكلمة تُشير إلى المواضيع التي كتب عنها كل من أفلاطون وأرسطو. ( يجب التنبّه أن هذه رواية عن أصل كلمة “فلسفة” وليس عن الفلسفة، لأنه كان هناك فلاسفة في اليونان قبل سقراط : سُمّوا – بتسمية مناسبة – فلاسفة ما قبل سقراط. علاوة على ذلك، برزت الفلسفة في الهند والصين باستقلال عن الفلسفة اليونانية ).
قول أنه لا وجود لحقائق مؤسسة في الميتافيزيقا لا يعني القول بأنه لا وجود لحقائق ميتافيزيقية، والقول بأن لا وجود لمعلومات ميتافيزيقية، لا يعني القول بأنه لا توجد معرفة ميتافيزيقية. خذ على بسيل المثال المسألة التي نوقشت باقتضاب في الكتاب : أن هناك حقيقية نهائية ( حتى ولو كنّا لا نعرف شيئًا عنها غير أنها موجودة ). في نظري الحجة التي قدّمتها تُبيّن أن وجود حقيقية نهائية هو حقيقة. ( وإذا كانت حقيقة؛ فهي حقيقة ميتافيزيقية )، واعتقد أنني – لأنني واعٍ بهذه الحقيقة وأفهمها – أعلم هذه الحقيقة. على الرغم من ذلك، هذه الحقيقة – إذا سلّمنا بأنها حقيقة – لا يمكن أن يُقال أنها حقيقة مؤسِسة، وعبارة أن هناك حقيقة نهائية لا يمكن أن يُقال بأنها معلومة. حقيقة مؤسسة و معلومة أن القارات في حالة حركة. نُسمّي هذه الأخيرة “مؤسِسة” لأن أي أحد لا يوافق على أن القارات في حالة حركة إما لأنه لا يقدر تمام التقدير البيانات والحجج التي من الممكن أن يُقدّمها جيولوجي في تدعيم هذه الأطروحة أو أنه عنيد فكريًا. ( تُوجد مُنظمة تُسمى جمعية الأرض المُسطحة، مُكرّسة – كما يُمكن أن يتوقع – للدفاع عن أطروحة أن الأرض مُسطحة. على الأقل بعض أعضاء هذه الجمعية أذكياء وعلى معرفة كاملة بالبيانات والحجج – من ضمنها الصور الفوتوغرافية للأرض المُلتقطة من الفضاء – التي تؤسس أن الأرض كروية. هؤلاء الناس يستمتعون في تأسيس ” تفنيدات” لأطروحة أن الأرض كروية. على ما يبدو، هذه ليست مزحة، يبدو بأنهم جادون جدًا. ما الذي يُمكن أن نقوله عنهم سوى أنهم عنيدون فكريًا؟) لا يُمكن أن يقال أن وجود حقيقة نهائية حقيقة مؤسِسة، مع هذا، بسبب أن هناك أناس يعون ويفهمون تمامًا الحجة المُقدمة في بداية هذا الفصل لنتيجة أن هناك حقيقة نهائية، على الرغم من ذلك، هم لا يقبلون هذه النتيجة. وأنه لا يُمكن تسمية هؤلاء الناس عنيدين فكريًا. اعتقد بأن الحجة التي قدمتها جيّدة بما فيه الكفاية لدعم دعواي لمعرفة أن هناك حقيقة نهاية، [لكن] لا اعتقد بأنها تدفع بنتيجتها نحو العقل بنفس القوة والوضوح التي تجعل من يرفضها ببساطة لا يُكمن أن يؤخذ بجديّة بنفس المعنى بالنسبة للناس الذين يقولون أن الأرض مسطحة لا يمكن أن يؤخذوا بجدية.
أطروحة أنه لا وجود لنتائج مؤسِسة في الميتافيزيقا يجب ألّا يُخلط بينها وبين أطروحة أن الفلسفة ليس لها آثار عملية مترتبة عليها. الأطروحة الثانية خاطئة بشكل واضح. حتى لو وضعنا جانبًا سؤال ما إذا كانت الفيزياء والعلوم الطبيعية الأخرى خرجت من الفلسفة، يُمكن ذكر الكثير من الأمثلة لآثار عملية مترتبة للتفكير الفلسفي. العديد من بنود دستور الولايات المتحدة يُمكن إرجاعه إلى كتابات الفيلسوفين توماس هوبز وجون لوك، والكثير من مآسي القرن العشرين يجد جذوره في كتابات الفيلسوفين ج.و.ف. هيجل وكارل ماركس ( ليست كل الآثار العملية جيدة.) الكثير من نظريات علماء الكمبيوتر المُستخدمة في عملهم اليومي لها أصول في فلسفة الرياضيات في أوائل القرن العشرين. في ستينيات القرن العشرين، تم التخلي عن مشروع طموح في برجمة برنامج حاسوبي لترجمة المقالات العلمية من لغة إلى أخرى بسبب حجة فلسفية ( ابتدعها فيلسوف اللغة يوشع بار هِلال Yeshua Bar-Hillel ) حول الاستحالة العملية لمثل هذه البرامج. في الوقت الحالي، هناك تواشج مُثمر لا بأس به بين فلاسفة العقل وعلماء النفس.
يُمكن أن نرى حدوث هذا في المنطق. قبل مئة عام تقريبًا، بدأت دراسة المنطق للخضوع إلى تحول جذري، ومن هناك بدأ ظهور بنية للحقائق المنطقية المؤسِسة ( أو قد يجادل أحدهم أنه كان هناك بنية للحقائق المنطقية المؤسِسة منذ القرن الرابع قبل الميلاد، لكن هذه الحقائق المؤسِسة – إلى قبل حوالي مئة عام – كان ضئيلًا وواضحًا لكي يكون هناك حافزًا في التفكير بالمنطق بوصفه علمًا بالمعنى الحالي للعلم.) وكنتيجة لهذا التحول الجذري للمنطق في الإثمار أكثر وأكثر، تضاءل اعتبار المنطق كفرع عن الفلسفة، وأصبح يرى بشكل أكبر بوصفه إما علمًا مستقلًا أو فرعًا خالصًا للرياضيات.
الفيلسوف الألماني في القرن التاسع عشر : هيجل، استشهد بفظاظة بإعلان من مجلة إنجليزية تعد بعلاج “فلسفي” للصلع !
اُبتكر التفاضل والتكامل بشكل مستقل من قِبل إسحاق نيوتن.
في القرن التاسع عشر كان هناك فلاسفة يسمّون أنفسهم بالوضعيين؛ لأنهم كانوا يعتقدون بأنه لا وجود لمعرفة إلا المعرفة “الوضعية”، التي كانت مصطلحهم لما يجب علينا تسميته معرفة علمية. الوضعيون المناطقة في القرن العشرين سمّوا أنفسهم بالوضعيين لأنهم اتفقوا مع هذه الأطروحة عن المعرفة. سمّوا أنفسهم بالوضعيينالمناطقة ليس لأنهم كانوا يدّعون بأنهم منطقيون بينما وضعيي القرن التاسع عشر كانوا غير منطقيين، لكن لأنهم استعملوا اكتشافات وتقنيات منطق القرن العشرين استعمالًا واسعًا.
سمعت الألسني نعوم تشومسكي ذات مرة يشير إلى هذا في محاضرة.
وهذا ينسحب على الحقائق حول الكلمات التي كتبها الفلاسفة. عادة ما يكون هناك اختلاف كبير حول تأويل ما قاله الفلاسفة. إذا قرأت شيئًا لأفلاطون مثلًا، وإذا قال أستاذك ( أو مؤلف هذا الكتاب أو غيره ) أن أفلاطون قصد س وتبدو لك وكأنه قصد ص، لا يوجد قانون يقول بأن عليك قبول رأي أحد ما بأن أفلاطون قصد س. سيكون من الأفضل أن ترى ما يقوله كلا من التأويلين، ثم تبدي رأيك الخاص عن أيًا منهما -إذا وجد- الصحيح.
في هذه الجملة عاملت فضل الحكم الاستعماري، وعلم النفس الفرويدي، والماركسية كما لو أنها أشياء يعرف كل المتعلمين الآن أنها أشياء سيكون من العبث والحماقة الاعتقاد بها. لاحظ كما هو سهل فعل ذلك.
هل يُمكن أن يكون هذا هو “خلل” الميتافيزيقا؟ هل علينا أن نقول بأن النظرية تكون بلا قيمة إذا لم تتنبأ بالكيفية التي ستسير عليها التجارب أو حول الملاحظات التي ستكشفها؟ هذا موقف جذّاب للغاية. تنويعًا على هذا [القول] اعتقد من قِبل كل من كانط والوضعيين المناطقة. لسوء الحظ كل محاولة لإنتاج نظرية محددة بعناية وحذر على نفس المنوال انتهت لأن تكون “مجرد فلسفة أخرى”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بك وتشرفنا بزيارتك وتعليقك الكريم
سنقوم بالرد على سؤالك فى خلال وقت قصير ان شاء الله
ويمكنك التواصل معنا على رقم الواتس
00966558187343
او زيارة صفحتنا على الفيس بوك https://www.facebook.com/LouaiHassan.HR
وترك تعليقك فى الخاص وسنقوم بمساعدتك فورا
مع اجمل التحيات والامنيات بحياة سعيدة مباركة